سليدر

إيراث.. رحلة أبناء الأرض السبعة نحو الخلود

خُلق بنو آدم لحياة لا تعرف العدم؛ هم أبناء الطين الذي لامسته نفخةٌ من روح الله، فأصبحت شرارة تجلّي المعنى ونداء أبديا للخلود. رحلة صراع بين الضعف الأرضي الذي يجذبهم للشهوة والاغترار بالقوة، في مقابل سموّ نوراني يقودهم لأمانتهم المقدسة بإعادة ميزان الحق والخير والجمال.

في الأدب تبدو مساحة جديدة لطرح الأسئلة الأعمق في جوهر تلك الرحلة التي أشارت إليها الكتب السماوية؛ وهنا تتحول المعاني لأبطال يتصارعون بلا هوادة، ويصبح التأويل هو أساس التعامل مع الملحمة الأدبية الأسطورية “إيراث.. من رحم الطين”، لكاتبها أدهم العبّودي.

لا أحد يعلم كيف يتّخذ أديب ومحامٍ في زحمة عالمنا المشحون بالصراع، قرارًا بكتابة أسطورة تحاكي قصة الخلق، وليكمل بها ميراث أدباء مرموقين ومنهم نجيب محفوظ في “أولاد حارتنا”، و”الجنة المفقودة” لجون ميلتون. هل أراد الكاتب المهموم بالعدالة أن يستعيد ميزان العدالة الغائب؟ هل يعيد للمرأة كينونتها بوصفها أصلا للحياة على الأرض؟

قصة الخلق

“صار اسم ايراث ذكرى في الرياح، وأنشودة يرويها قومه، كلما طغى الشر في الأفق البعيد”

يستلهم النص “سفر التكوين” وهو العهد القديم لأهل الكتاب، والذي يبدأ مع الخطيئة الأولى ويعبر لسفينة نوح والطوفان ومرورا بسلسال الأنبياء الكرام، لكن الرواية تختار سرديا أن  تتناص مع القرآن الكريم لفظا ومعنى في كثير من القصص الواردة عن صراعات المختارين مع أقوامهم العصاة، مستندة لتراث الأسفار كشجرة المعرفة وبرج بابل والحية.

يعبّر “إيراث” بطل الرواية عن الإنسان الأول الذي سترث ذريته مهمة حماية الأرض، أما زوجته “أولا” فهي المرأة الأولى التي تحمل كل صفات الاحتواء والحب والحكمة، وكيف كتب القدر رحلة كلٌ من أبنائهم في مدن النار والثلج والكهوف المنسية لملاقاة أشباح الشر والظلاميين الذين تمردوا على فطرة الحق وتجبّروا فطالتهم اللعنة وفات أوان استعادتهم لأسمائهم وذكراهم. 

تتخذ الأحداث أبعادا أسطورية ترمز لصراع الخير والشر؛ الإنس والشياطين. كما يرمز أبناء إيراث لمفاتيح الأسرار السبعة للعالم: الزمن، الضوء، الظلال، المعرفة، الطبيعة، النفس والروح. وكلما توغلنا في المتن سنرى انعكاسًا لأمم أصبحت أثرا بعد عين؛ فرعون حين أهلك الحرث النسل، وقوم عاد حين غرتهم قوتهم وبنيانهم، جميعهم هلكوا، ومع ذلك يظل جبروت القوى الاستعمارية اليوم وكأن الإنسان لا يتعلم. 

ليس الصراع في هذا العمل كونيا فحسب؛ بل يدور صراع نفسي هائل داخل إيراث الذي يتحول بمرور الوقت لكهل يواجه ذبول روحه وجسده ويقرر أن يتصدى لسيف “زلحاف” – رمز شيطاني- فينهض من جديد.

يبدو زمن السرد في الرواية دائريًا يبدأ من “إيراث” القديم مع نشأة الخلق، ويتجاوزه لأزمنة تنتقل بنا من لغة الإشارة لمهد الكلمات ومن ثمّ النقش على الحجر والكهوف والرسوم والحضارة التي تخلد ذكرى الإنسان، وهو ما فعله الفنان “إيراكان” حفيد إيراث، حين أراد مواجهة العدم بالنقش والفن.

أولا.. الأم والأرض والحبيبة

“كلما التصقت يدها بيده، انفرجت السماء ببرق أضاء العتمة، وأورقت الزهور كأنما نزلت عليها قطرة من نهر الخلود”.

المرأة في النص هي الحكمة واللغة وهي الحضارة. تنفي الرواية عنها النظرة القديمة لها كمصدر للغواية وتجعلها الحبيبة لإيراث والأم المقدسة التي نذرت أبناءها لإعادة ميزان الكون.

يبرز الحب كمعادل للقسوة؛ تقول “أولا” لولدها أن أهل الظلال لو عرفوا الحب قديما ما اختاروا غيره. يجمع الحب بين إيراث وأولا؛ فقد “وضعت كفها على صدره المختلج تطمئنه، لامست عمق حواسه، ائتلفت روحيهما” 

علمت “أولا” أبناء القرية كيف يحبّون بنات جنسها وكيف يصبح للمرء أليفته بدلا من رحم الأرض. علّمت إيراث كيف ينطق الحروف وكيف يسكن إليها. وكانت قديسة القرية التي تناجي الأشجار والسماء فتستجيب ولهذا أصبحت روحها طيفا رحيما يرشد الأبناء في طريقهم حتى بعد رحيلها.

يتعمق السرد في الفطرة البشرية والتي جُبلت على الغيرة منذ زمن قابيل؛ فقد كان إيراث حارس قومه وسيدهم وحاميهم من الضواري المتوحشة، ولكن كل ذلك لم يمنع عنه محاولتهم الفتك به للاستئثار بأولا الجميلة ثم للتخلص منه ظنا أنه يريد ميزان الذهب لنفسه – رمز استقرار العالم وقوته – ثم اتهام الأسرة المباركة بأنهم سبب لعنة القرية، قبل أن يدرك الجميع أنهم الجدار الحقيقي الذي يحميهم في وجه الخطر وريح الهلاك.

من رحم الطبيعة والخيال

لغة هذا العمل هي المنجم الذي يخلق المعاني، وهي لا تؤدي دورها في التوصيف الشعوري فحسب، ولكنها تنسج سردًا روحيًا أشبه بالترتيل الصوفي الذي يسمعه الطير وتدركه قلوب العارفين.

كانت اللغة هي الوجود؛ تنطق “أولا” بحروف تنزلت نورا على قلبه من السماء، كلمات تجعل للمخلوقات اسما ومعنى، تتهجى فيتهجى إيراث ويتعلم، ويتحول صمتهما للغة ينطق بها أهل القرية ويشدو بها الكون. وكأن اللغة هي منشاة حضارة الإنسان وذاكرته التي تتحدى الموت والعدم.

الجملة في الرواية خاطفة كضربة ريشة في لوحة طبيعية؛ لكن إيقاع السرد في “إيراث” بطيئا بالنسبة للقاريء العابر؛ فالرواية تقوم بنية السرد فيها على الوصف الشعوري المكثف والذي يقترب من الأشعار الملحمية.

تحفل الرواية بالأسطورة والخيال؛ فنرى المخلوق الذي يشبه الجمل لكنه بعيون أربع لامعة كالنجوم؛ رفيق إيراث في الصحراء. أما الطبيعة فهي لا تقل غموضًا وسحرا؛ يكفي بينها بحيرة نورانية مشعة تحوم فوقها فراشات بأجنحة من أثير، وكلها تفاصيل تمنح السرد عذوبة ودهشة.

أحيانا تشبه الحبكة متاهة طويلة تتعثر فيها خطانا، مع احتشاد لا محدود للأسماء والكائنات الغرائبية تلعب على ذاكرة الإنسان فتحييها أو تميتها، لكنها تلتقي في النهاية لمصير واحد.

في مقاومة النسيان

تلحّ ذاكرة الإنسان كتيمة رئيسية في الرواية وكأنها سلاحه الحقيقي للخلود. يتخلق من الرمزية على مسرح الرواية معبد الذكرى العتيقة بين النجوم وجدرانه التي لا تنفتح إلا لمن كان قلبه نقيًا. وهناك على الدرب نفسه غابة النبضات السرمدية وأشجارها التي تذكر زائريها بماضيهم وأسرارهم. فيما تعاقب الرواية من اختاروا القوة على الحكمة بلعنة النسيان.

هل نتخيل مثلا شجرة من الحكايات تحوم حولها أرواح الكائنات التي تغسل البشر بماء الذكرى .. هل رأينا جنة سماوية لم تخطر بقلب بشر وشرطها هو استكمال الحكاية التي جئنا لأجلها، كل ما في الرواية يهمس: لا تنس يا إنسان!

كي تكتمل الحكاية

“ضع قلبك في الميزان، فهو يحمل الحقيقة التي توازن كل شيء”

تحمل “إيراث” فكرة الميزان الذي يعيد سلام عالمنا؛ إنه أحد أسماء الأبناء السبعة للأرض “روح السلام” والذي يواجه كائنا عدميا يسمى “الرملي الأكبر” بشجاعة قائلا: وإن كانت الظلمة مقدّرة، فإن النّور أقدم منها، وإن كانت الأرض قد صارت لك ميراثا، فإن السّماء لم تكن يومًا للظالمين.

يبدو الأبناء السبعة كأقنعة نفسية للإنسان، كل واحد منهم انفصل عن الذات الكاملة “أولًا”.تقول الأم: “إنكم النور الذي سيقاوم ظلام الأرض، كل منكم خلق ليصلح جزءًا من هذا العالم المكسور”

“قلب الماء” و”روح السلام” و”صوت السماء” و”الزّارع” و”الرّائي” و”حامل الأسرار” و”عين الحكمة” جميعهم سيواجهون أشباح الظلام بمعاونة الأشجار الطيّبة؛ شجرة الأبدية التي تحتضن ذكرى الإنسان من عين العدم. وشجرة الحكمة التي تنشر جذورها للفتك بجيش الظلام. وكأن الأرض تقول: لست وحدك! 

مع كل موجة من بحر الحكايات، علم الأبناء أن “القوة بلا حكمة تتحول إلى لعنة”. اقترب السبعة من الأرض وعلموا كيف تتنفس وتشعر. كيف يخبيء الجبل الحنين في الضلوع، وكيف تكون القسوة وجهًا آخر للحكمة.

وبين جبل الخطايا وجيش الكاسرين لا تزال الملحمة، ولازال الأخوة يسعون لتكتمل الحكاية وليدركوا مفتاح اليقين مهما كان الثمن.. وعلى ضفاف بحر الأحلام، بدأت الأرض تزهر وعرفت القدم الطريق..

📎 رابط مختصر للمقال: https://www.baladnews.com/?p=367

موضوعات ذات صلة

في ذكرى مولده الشريف.. قبسات خالدة من نور النبي

المحرر

بشرى سارة للمواطنين بشأن أسعار البطاطس

المحرر

تفاصيل تعيين 40 ألف معلم بالأزهر الشريف

المحرر

مستند رسمي يؤكد سحب أرض الزمالك بشكل نهائي

محمود المهدي

مدير معهد البساتين: زراعة النباتات الطبية والعطرية تواجه التغيرات المناخية

المحرر

مواجهة التنمر.. دليل عملي للآباء

المحرر