تضيء أنوار المسرح القومي المصري مع النسخة الثالثة من رائعة “الملك لير” لشكسبير، بطولة النجم القدير يحيى الفخراني، وبحضور جماهيري غير مسبوق، حتى أن عشاق المسرح يأتون من العالم العربي لمشاهدة إحدى علامات الأدب العالمي؛ حيث تواجه العلاقات الإنسانية -في الأسرة والمملكة – عواصف عاتية تحطّم قشرتها المزيّفة، ليبقى فقط ما كان حقيقيا.
المسرحية ميلودراما تراجيدية، تعكس تيمة الصراع بين الخير والشر، الوفاء والخيانة، إلى جانب غطرسة السلطة وخطيئة الغضب حين تعمي العيون.
وسبق أن قُدمت أكثر من معالجة لمسرحية “الملك لير” بمصر، ومن أـشهرها عرض “سمفونية لير”، حيث ترجمها الدكتور محمد عناني و أخرجها انتصار عبد الفتاح.
النسخة الجديدة للعرض يقودها المخرج شادي سرور برؤية تقوم على منح المتفرج مساحة أكبر في مشاهدة الملاحم والمناظر الخارجية، مع التركيز على الجوانب الشعورية الإنسانية في العمل المسرحي، ولهذا كان التأثير عظيما في الجمهور الذي أصرّ بعضه على الحضور برغم مشاهدة المسرحية من قبل.
يذكر النقاد أن شكسبير قد استقى مسرحيته من العهد القديم فى العصر الإغريقي الذى يحكمه الملوك أصحاب السلطة المطلقة، وقد كان الاعتقاد آنذاك بأن الملك هو ظل للآلهة على الأرض، وكانت العقول تسودها الكثير من الخرافات؛ ولكن شكسبير من باب آخر كان يبعث رسالة لملوك أوروبا خلال القرن السابع عشر بخطورة صم آذانهم عن أصوات الرعية، وترك الباب للإقطاعيين للإفساد.
عاصفة الغدر في وجه لير
الملك لير مسرحية تراجيدية لويليام شكسبير تتكون من خمسة فصول، كتبت في 1605 ونشرت في 1608. قدمت على المسرح لأول مرة سنة 1606. تدور الحكاية حول ملك بريطاني قديم، أحبّ أن يوزع مملكته على بناته الثلاث (جونريل وريجان وكورديليا) حسب قدرتهن على التعبير عن حبهن لأبيهن. استطاعت الابنتان الكبريتان أن تؤثرا على أبيهما بإيهامه بحبهما عبر كلام معسول لا ينبع عن عاطفة حقيقية بل طمع، أما كورديليا فرفضت أن تكون عاطفتها محلا لجلب المنافع المادية، وبرغم حبها الصادق لأبيها، ولكن الملك لم يعجبه ردها فحرمها من الميراث، وعاش مع بنتيه يتنقل بينهما، غير أنه سيلاقي الهوان والذل في قصريهما، ويُنزع عنه حراسه.
يصبح “لير” ملكا بلا سلطة، ويُطرد في العراء شريدا رغم هرمه في وجه الريح العاتية، وهناك يلتقي بالأمير جلوستر الوفي الذي فُقأت عينيه لأنه حاول إنقاذ الملك، وتظل مأساتهما حتى تسعى الابنة كورديليا التي تزوجت من ملك فرنسا لإنقاذ أبيها على رأس جيش، والتي تجسد دورها الفنانة ريم المصري.
ينتهي الأمر بمأساة أكثر ترويعًا حين ينهزم جيش فرنسا فيتم أسر الملك وابنته وتكون نهايتهما، كما تنتهي حياة الابنتين العاقتين بالقتل والانتحار، بسبب الغيرة بينهما على حب “ارنولد” الابن غير الشرعي للأمير جلوستر وقائد الجيش، وبرغم زواجهما من أمراء البلاط، فنرى أعشاش الخيانة تهوي فوق رؤوس الجميع.
رحلة تطهّر
يقدم يحيى الفخراني في “الملك لير” حالة من التوحّد والتوهج، خاصة وأن عمره الثمانيني هو نفس عمر الملك لير في النص؛ فنرى كتلة شعورية تتأرجح بين السخرية من مصيره في عراء الصحراء منفيا خارج قصره بيد ابنتيه، والغضب الشديد الذي يستوجب تدخل “آلهة السماء”، خاصة مع اعتلال الصحة، والحزن الذي أصابه بلوثة وفقدان ذاكرة؛ يهيم على وجهه ويلقي النكات والسباب، ويثير فينا الضحك رغم المأساة، إلى جانب “المهرج” وهو مضحك الملك الذي جسده الفنان حسام داغر بخفة ظله المعروفة، وهو يمثل صوت الضمير وتنطق سخريته بحكمة ظلّ الملك يجهلها طويلا عن العدل مع الرعية، وعن حق ابنته المحرومة من محبته برغم صدقها.
كان “لير” شيخا ذاهلًا بضياع سلطانه وجحود بناته الذي يفوق لدغة الثعبان ألما، ويقوده الدوق جلوستر والذي يؤدي دوره باقتدار الفنان طارق الدسوقي، ويظهر تعذيبه بعد أن فقد عينيه في قصر الابنة على يد وحشين بشريين لأنه سعى لإعادة الأب وإنقاذه، ولكن هذا العمى لم يسلبه إرادته ولا بصيرته، وبرغم سخرية المهرج بأن: أعمى يقود مجنونًا!
بدت رحلة الملك الهائم مرتديًا إكليلًا من قش بديلا عن تاجه، في مواجهة الطبيعة، هي رحلة أقرب للتطهّر من كل آثامه ومظالمه، ورحلة استبصر فيها حقائق الأشياء، رغم ذهول عقله، ولهذا فمجرد احتضان كورديليا له، يعود له رشده وقلبه شيئا فشيئا.
كان المخرج والممثل الراحل د.أحمد عبد الحليم، صاحب الفضل في تقديم “الملك لير” في نسختها الأولى عام 2001، وقدّم آنذاك شخصية الدوق النبيل زوج الابنة الكبرى والذي يأمر بمعاقبة أرنولد جزاء خيانته للقصر، ولا يأتي جزاء الخيانة إلا بسيف “إدجار” الابن الشرعي لجلوستر والذي تنكّر طويلا في هيئة مجذوب بعد أن اتهمه أخوه بالخيانة ليبعد الشبهة عن نفسه ويوسع الطريق للسلطة.
تناغم لغات العرض
لقد تكاملت لغات خشبة مسرح لير، من إضاءة ناعمة بتصميم محمود الحسيني تتماهى مع الحالة الشعورية، لموسيقى مبدعة قدمها الملحن أحمد الناصر وكانت جزءًا من ملحمة لير الكبرى. ولقد تكاملت عناصر الديكور المتراوح بين البساطة والفخامة والتي قدمها د.حمدي عطية، إضافة للملابس الملائمة لحياة القصور الإنجليزية القديمة بتصميم علا علي، والاستعراضات المبدعة والتي خلقت مساحات جديدة من الاندماج مع صراعات الأبطال على خشبة المسرح، وتحقيق المتعة.
وكان مشهد العاصفة دالا على كيف تلعب الإضاءة والمؤثرات السمعية دورا في تحقيق الاندماج الشعوري مع الملك لير الذي يواجه عاصفة الطبيعة وعاصفة نفسه النادمة على قرارات ماضية. ويبدو كذلك دور الإضاءة والمؤثرات مع مشهد الملك لير حاملا ابنته في الصالة وصولا لخشبة المسرح وهي صريعة، ثم تنسل روحه بعدها مباشرة، وكأن شكسبير قد أراد أن يظهر ضعف الملك لير في مواجهة أقداره، ويأتي الخير والعدل عبر جيل جديد لم تلوثه المطامع .
ورغم اعتماد المسرحية على نص كلاسيكي لشكسبير، لكن صناع العمل استطاعوا تقديمه ببساطة غير مخلة، عبر لغة فصحى غير متقعرة، وحوارات حية تضفي حيوية مع الكوميديا الساخرة.
هكذا تكمل مسرحية الملك لير ربع قرن من التوهج والحضور، وتثبت أن الجمهور المصري متعطش للفن الحقيقي ومعادلته الكائنة في نص أدبي عظيم وأداء تمثيلي لا يقل إبداعًا، ورؤية على خشبة المسرح تحقق التفاعل مع الجمهور وتضيء العمل.
تظل شخصية “الملك لير” استثنائية بين كلاسيكيات الأدب العالمي، ودرة مسرح شكسبير، ويبدو كيف أن الندم الذي يعتري قلبه وخوفه من غضب السماء، يمكنه أن يجلي بصره ويخبره بمن أحبه بصدق بعيدا عن المآرب، كما يمكنه الاقتراب من رعيته كملك عادل بعيدا عن طمع الحاشية وهي تيمة صالحة لكل العصور والمجتمعات.
