فى تحرك يُعد من أبرز التحولات في السياسة المالية اللبنانية خلال الأعوام الأخيرة، أصدر مصرف لبنان المركزي قرارًا صارما يحظر على المؤسسات المالية المرخصة في البلاد التعامل المباشر أو غير المباشر مع مؤسسة القرض الحسن التابعة لحزب الله. هذا القرار، الذي كان قيد الإعداد منذ عدة شهور وفقًا لمصادر رسمية، يعكس استجابة واضحة لضغوط دولية متصاعدة، وفي مقدمتها الضغوط الأمريكية، لتجفيف منابع التمويل المرتبطة بالحزب، الذي صنفه عدد من الدول كمنظمة إرهابية.
كما يشكل القرار خطوة غير تقليدية في مسار العلاقة بين الدولة اللبنانية ومؤسسات تابعة لحزب الله، خاصة وأن مؤسسة القرض الحسن لطالما عملت داخل لبنان تحت غطاء قانوني باعتبارها مؤسسة خيرية تقدم قروضا وفقًا للشريعة الإسلامية. إلا أن الاتهامات الدولية المتكررة باستخدامها كأداة لتمويل الحزب، وتحريك أموال بعيدة عن الرقابة، فرضت على السلطات اللبنانية التعامل بحزم بعد سنوات من التغاضي.
يرى العقيد محمد إسماعيل، الخبير الأمني، أن القرار يُعد رسالة مزدوجة: من جهة، هو إعلان داخلي بأن الدولة بدأت استرداد سيادتها المالية، ومن جهة أخرى هو إشارة للمجتمع الدولي بأن لبنان لا يزال قادرا على ضبط اقتصاده في مواجهة الضغوط. ويضيف: حزب الله بنى قوته على مزيج من السلاح والمال، وإذا تم ضرب أحد العمودين، تبدأ المعادلة في التغيير.
كما يؤكد حسين فؤاد، المحلل السياسي المتخصص في الشؤون الدولية ، أن القرار يعكس إدراكا متناميًا داخل دوائر الحكم اللبناني بأن استمرار تجاهل القوانين الدولية لم يعد خيارًا مطروحا. الحكومة اللبنانية تخوض معركة بقاء اقتصادي، وأي تهاون في تطبيق المعايير الدولية لمكافحة تمويل الإرهاب قد يعزل لبنان بالكامل عن المنظومة المالية العالمية
من المهم الإشارة إلى أن مؤسسة القرض الحسن كانت قد فرضت عليها عقوبات أمريكية منذ عام 2007، بعد اتهامات باستخدامها كواجهة لإدارة أنشطة مالية غير شرعية وتمكين حزب الله من الوصول إلى النظام المالي الدولي. إلا أن القرار اللبناني اليوم يأتي ليتكامل مع هذا المسار، ويمنع تغلغل المؤسسة في النظام المالي المحلي ذاته.
ويشير نسيب غبريل، كبير الاقتصاديين في بنك بيبلوس، إلى أن البنوك اللبنانية كانت قد بدأت فعليًا في النأي بنفسها عن المؤسسة منذ سنوات، إلا أن غياب قرار رسمي كان يمثل ثغرة قانونية. التحرك الحالي يسد فجوة كبيرة، ويعد جزءًا من مكافحة اقتصاد الظل، الذي ظل يؤثر سلبا على الشفافية والثقة في النظام المالي اللبناني
وقد تزامن هذا القرار مع تصعيد ميداني جديد بين إسرائيل وحزب الله، حيث شنت تل أبيب واحدة من أعنف غاراتها الجوية منذ نوفمبر، مستهدفة معسكرات تدريب ومستودعات أسلحة شرق البلاد، ما أسفر عن سقوط 12 قتيلا، بينهم خمسة عناصر من الحزب. وهو ما يزيد من أهمية التوقيت، إذ يبدو أن الضغوط على الحزب آخذة في التزايد على المستويين العسكري والمالي معًا.
أزمة اقتصادية خانقة
على المستوى الدولي، تأتي هذه الخطوة في أعقاب إدراج المفوضية الأوروبية للبنان على قائمة الولايات القضائية عالية المخاطر، إلى جانب وضعه سابقا على القائمة الرمادية لمجموعة العمل المالي (FATF). ويتوقع أن يكون للقرار انعكاسات إيجابية على محاولات لبنان للعودة إلى النظام المالي العالمي، لا سيما في ظل أزمة اقتصادية خانقة تهدد بانهيار شامل.
رغم كل ما سبق، يبقى السؤال مفتوحا: هل يمثل هذا القرار بداية مرحلة جديدة من إعادة ضبط العلاقة بين الدولة اللبنانية والجهات المسلحة غير الرسمية، أم أنه مجرد خطوة اضطرارية لامتصاص الضغوط؟ الإجابة على هذا السؤال ستتضح في الأشهر المقبلة، خاصة إذا ما تبع القرار خطوات تنفيذية رقابية صارمة، وتوسع في تجفيف باقي منابع التمويل غير النظامي.
إن ما أقدم عليه مصرف لبنان لا يجب اعتباره إجراء معزولا، بل هو اختبار لقدرة الدولة اللبنانية على النهوض مجددا كمؤسسة قادرة على فرض القانون. وبينما تتجه الأنظار إلى رد فعل حزب الله، يبقى الرهان على أن يكون القرار نقطة تحول حقيقية في مسار الدولة اللبنانية نحو الاستقرار المالي والسياسي، وليس مجرد محاولة لكسب الوقت أمام المجتمع الدولي
