تتجه الأنظار مجدداً نحو طهران، حيث يدخل الجيش الإيراني مرحلة جديدة من الاستعدادات العسكرية عبر مناورات تمتد يومين متتاليين، يعلن فيها عن اختبار صواريخ كروز قصيرة ومتوسطة المدى، في رسالة واضحة بأن الحرب الأخيرة لم تكن سوى جولة أولى في صراع لم تنطفئ جذوته بعد. فالمشهد لا يبدو مرهوناً بوقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ في 24 يونيو الماضي، بقدر ما هو معادلة ردع متبادلة تتهيأ لمعارك مستقبلية قد تندلع في أي لحظة.
اللافت أن إيران اختارت هذا التوقيت لتلوّح بأنها طورت صواريخ أكثر تقدماً من تلك التي استخدمتها في حرب الـ12 يوماً مع إسرائيل. وزير الدفاع الإيراني عزيز نصير زاده يؤكد أن بلاده تملك اليوم ترسانة صاروخية متطورة قادرة على تغيير قواعد اللعبة. ويذهب إلى أبعد من ذلك حين يشدد على أن أي مغامرة جديدة من إسرائيل ستواجه برد أكثر إيلاماً.
هذه التصريحات تعيد إلى الواجهة حقيقة أن طهران لا تنظر إلى المواجهة الماضية كحرب منتهية، بل كاختبار أولي لقدرتها على الصمود والرد. هنا يرى اللواء شبل عبد الجواد، الخبير الأمني، أن إيران تلعب على معادلة الردع النفسي قبل الردع العسكري، فهي تعلن عن قدرات متطورة لإرسال رسالة مزدوجة: الأولى للداخل لرفع الروح المعنوية، والثانية للخارج، وتحديداً لإسرائيل وحلفائها، بأن أي تصعيد سيكلفهم ثمناً باهظاً
وفي الوقت ذاته، لا تغيب الحسابات السياسية عن المشهد. المهندس علي عبدة، رئيس مجلس التعاون العربي، يؤكد أن البرنامج الصاروخي الإيراني لم يعد مجرد سلاح دفاعي، بل ورقة ضغط إقليمية تستخدمها طهران في مواجهة الضغوط الغربية والإسرائيلية. فكل إعلان عن صاروخ جديد هو في جوهره رسالة سياسية تقول إن إيران قوة لا يمكن تجاوزها في أي تسوية قادمة
من الناحية التقنية، تكشف إيران بين الحين والآخر عن صواريخ تثير قلقاً متزايداً لدى العواصم الغربية. أبرزها صاروخ فتاح وفتاح 2 الفرط صوتي، القادر على المناورة بسرعات هائلة تجعله شبه عصي على أنظمة الدفاع الجوي. وإلى جانبه يأتي صاروخ خيبر شكن الذي يبلغ مداه 1400 كيلومتر ويعمل بالوقود الصلب، ما يمنحه سرعة في الإطلاق وقدرة على إصابة أهداف بعيدة بدقة متناهية. أما صواريخ قدر وعماد وشهاب، فهي تشكل العمود الفقري للترسانة الباليستية الإيرانية.
الغرب من جانبه لا يخفي مخاوفه من هذا السباق العسكري. فرنسا دعت مؤخراً إلى اتفاق شامل يضم البرنامج النووي والصاروخي معاً، معتبرة أن هذه القدرات تهدد الأمن الإقليمي. لكن طهران ترفض طرح قدراتها الدفاعية على طاولة المفاوضات، وتصر على أن الصواريخ بالنسبة لها خط أحمر لا يمكن التنازل عنه.
في المقابل، يرى خبراء عسكريون أن إسرائيل تقرأ هذه التحركات كجزء من استعدادات لمعركة مقبلة، وهو ما يفسر تكثيفها للاتصالات مع واشنطن وعواصم أوروبية لاحتواء التهديد الإيراني. لكن التقديرات الأمنية الإسرائيلية تعترف في الوقت نفسه بصعوبة اعتراض الصواريخ الفرط صوتية التي تطورها طهران، ما يجعل المعادلة أكثر تعقيداً.
السيناريوهات المقبلة تضع المنطقة أمام مفترق طرق. فإما أن تبقى هذه المناورات والإعلانات في إطار الحرب النفسية والردع المتبادل، وإما أن تتحول الشرارة الصغيرة إلى مواجهة واسعة النطاق. ويبدو أن الرهان الأكبر اليوم ليس على القدرات العسكرية وحدها، بل على قدرة الأطراف على ضبط إيقاع التصعيد ومنع الانزلاق إلى حرب شاملة قد تعصف بالاستقرار الهش في المنطقة.
