شؤون سياسية

صرخات الجوعى تصطدم بجدران الصمت

في قلب الجحيم الذي لا يهدأ في قطاع غزة، تتجلى واحدة من أبشع صور الحصار في العصر الحديث، حيث لم تعد المأساة مجرد عنوان في نشرات الأخبار، بل باتت مشهداً يوميًا يعصف بوجدان كل من بقي له ضمير حي. آلاف الأطفال يتضورون جوعًا، المستشفيات تنهار تحت وطأة نقص الإمدادات، وشاحنات المساعدات تتحول من أمل إلى هدف للنهب أو التخزين. وسط هذا المشهد، تتوالى الاتهامات وتتصاعد الأصوات الدولية، ولكن شيئًا لا يتغير على الأرض سوى اتساع رقعة المعاناة.

في الميدان، تتحول المساعدات الإنسانية إلى سلعة نادرة وخطيرة، تخضع لمعادلات قاسية من السيطرة والعنف. الخبير الاستراتيجي اللواء يونس السبكي يرى أن ما يحدث هو سلاح جديد من أسلحة الحرب النفسية والجسدية، الهدف منه كسر إرادة المدنيين قبل أي شيء آخر. ويوضح السبكي أن حرمان الناس من الغذاء والدواء في ظل الحرب، ليس فقط جريمة أخلاقية، بل يُعد وفق القانون الدولي جريمة حرب مكتملة الأركان، تُمارَس مع سبق الإصرار، سواء من قبل الجهات التي تستولي على المساعدات أو التي تمنع دخولها.

أما المحللة السياسية مها الشريف، فتلفت الانتباه إلى البعد الأعمق في هذه المأساة، إذ ترى أن المساعدات أصبحت ورقة ضغط بيد الأطراف المتصارعة، بدلًا من أن تكون طوق نجاة للمدنيين، مؤكدة أن حركة حماس تستغل هذه الورقة لترسيخ نفوذها في الداخل، بينما تستثمر إسرائيل في معاناة المدنيين لتبرير استمرار عدوانها، والكل يدفع الثمن من دماء الأبرياء. تضيف الشريف أن ما يحدث لا يُظهر فشل منظومة الإغاثة فحسب، بل يكشف أيضًا عن هشاشة النظام الدولي الذي يقف عاجزًا أمام مشهد واضح لانتهاك كل ما يُفترض أنه خط أحمر إنساني

الفوضى التي تضرب قطاع غزة اليوم ليست عرضًا جانبيًا للحرب، بل هي نتيجة طبيعية لخلل منهجي في التعامل مع الملف الإنساني. الشاحنات التي يتم نهبها أو تخزينها بدلًا من توزيعها، تعكس انهيارًا كاملاً للمنظومة القيمية في منطقة لا تعرف سوى منطق السلاح والسلطة. وفي ظل غياب الأمن الداخلي والخارجي، اضطرت منظمات دولية إلى تعليق أعمالها، كما حدث مع واحدة من كبرى الشركات الأميركية العاملة في المجال الإغاثي، وهو تطور بالغ الخطورة، يُنذر بكارثة إنسانية قد تكون الأكبر منذ بدء الحرب.

اللواء يونس السبكي يحذر من أن تراجع الدور الإغاثي في غزة سيؤدي حتمًا إلى تفاقم حالات الجوع والمرض، وقد نكون أمام موجة موت بطيء لا تختلف في قسوتها عن القصف المباشر”. ويضيف أن انسحاب هذه المنظمات يُشكّل ضوءًا أحمر للعالم بأسره، فالوضع أصبح غير قابل للتأجيل أو التبرير. ويحمّل السبكي إسرائيل المسؤولية الكبرى في خلق هذه البيئة الخطرة، من خلال استهداف قوافل المساعدات، وتعطيل عمل المؤسسات، وتقييد إدخال الإمدادات عبر المعابر، وهو ما يُمثّل نمطًا ممنهجًا لتجويع السكان، لا مجرد خلل لوجيستي.

تؤكد مها الشريف أن الخطورة الأكبر لا تكمن في الحصار فحسب، بل في تكريسه كواقع دائم. ما نراه اليوم هو مخطط مستمر لتفكيك النسيج الاجتماعي في غزة، وتجريد السكان من أدنى مقومات الحياة، مما يخلق أجيالاً مشوهة نفسيًا وجسديًا، عاجزة عن النهوض مستقبلًا تقول الشريف، مطالبةً المجتمع الدولي بتحمل مسؤولياته والضغط الجاد على كل من إسرائيل والسلطات المسيطرة داخل غزة لضمان وصول المساعدات بشكل عادل وآمن.

بين مآسي الداخل وجرائم الخارج، يبدو أن غزة تُساق عمدًا إلى حافة الانهيار الكامل. وتجويع السكان وتحويل المساعدات إلى أداة للسيطرة، لم يعد مجرد مؤشر على أزمة إنسانية، بل عنوان واضح لجريمة تُرتكب على الهواء مباشرة، في وضح النهار، وتحت أنظار العالم. ولا يُمكن لهذه الجرائم أن تمر دون حساب، أو أن تُقابل بصمت دولي مريب.

المستقبل القريب لا يحمل الكثير من البشائر إذا استمر الحال على ما هو عليه. ومع استمرار الحرب وتعمق الانقسام الداخلي، ومع غياب موقف دولي حازم، يبدو أن قطاع غزة يتجه نحو مرحلة جديدة من المعاناة، قد تكون أكثر قسوة مما سبق. ولكن لا تزال هناك فرصة، وإن كانت ضئيلة، لتدارك الكارثة قبل أن يفقد كل شيء معناه. المطلوب ليس فقط إدخال المساعدات، بل خلق آلية رقابة دولية فعّالة تضمن عدم استغلالها أو عرقلتها، وإنقاذ الأرواح من ساحة أصبحت فيها اللقمة حلمًا، والدواء معجزة، والحياة نفسها عبئًا ثقيلًا.

📎 رابط مختصر للمقال: https://www.baladnews.com/?p=5505

موضوعات ذات صلة

الرعب والخوف والهروب إلى الملاجئ بعد استهداف يافا

المحرر

تفتح آفاقًًا جديدة للتعاون.. برلمانيون يشيدون بمشاركة الرئيس في البريكس

المحرر

روسيا تعود من بوابة أفريقيا: أمن ومكانة عالمية

المحرر

قانون أمريكي مرتقب لإدراج الإخوان إرهابيين

المحرر

هل تواجه سوريا خطر الفخ الليبي ؟

المحرر

نتنياهو يقبل بوقف إطلاق النار في لبنان

المحرر