سليدر

غادة العبسي: الحب أخرجني من سجن الحرب

على شاطيء الإسكندرية حيث تلتقي حضارة مصر بالحضارة الإغريقية، تتشابك مصائر أسرتين من الخواجات وأولاد البلد، عبر نصف قرن حملت شظايا الحربين العالميتين الأولى والثانية وموجات الاحتلال والمقاومة والثورة .. في تلك اللحظات يطل الحكي كشمعة تبعث الماضي وتبحث عن مواطن الحب والأمل في أشد لحظات الألم.

 فازت رواية “كوتسيكا” مؤخرًا بجائزة “ساويرس”، وهي رواية أصوات متعددة تنقلنا من فنادق النخب لحواري المهمشين ببراعة وحبكة متقنة وسرد يجمع فنون الحكي شعرًا ونثرا. في الرواية نتعرف على ظروف تأسيس الخواجا كوزيكا اول مصنع للكحول في الشرق الأوسط، حيث أمكن بيع النشوة المختمرة بالمرارة، فيما جاهدت أسرة العامل “عبد العليم” لدرء لعنة الحرام التي أصابتها.. وبعيدا عن الحكاية التاريخية والاجتماعية التي احتشدت لها الكاتبة بمراجع كثيرة؛ تدهشنا الرواية بتلك الثنائيات التي تتقنها الحياة؛ حبا وكرها، موتا وحياة. ونرى كيف تتحول البلاد لساحة صراع يستهين فيها الاحتلال الإنجليزي بأرواح أهل البلد، كما ندرك كيف ان أي غازي لا يمكنه البقاء دون وسطاء يمهدون طريقه لأجل مصالحهم.

السطور التالية تحمل حوارًا مع المبدعة الطبيبة د.غادة العبسي، حول الكتابة في زمن الحرب، ومبادرتها مع زوجها تجاه أطفال غزة، وعن روايتها الملحمية “كوتسيكا” وعن الفن والحياة.. إلى التفاصيل

حدثينا عن يومياتك في مساعدة الأطفال على تخطي تروما الحرب المهولة في قطاع غزة

وقفت حرب الإبادة في غزة بيني وبين العالم؛ لشهور لم أستطع أن أكتب حرفًا، أصبت حقيقة بــ”فقدان الشعور بالمتعة” وقد احتجزتني الأخبار والمشاهد والجرائم في سجن واجهتُ فيه عجزي كإنسانة، وقد كتبت للأصدقاء عبر صفحتي أني قد بدأت أتفهم صمت بوذا كنتيجة حتمية لهذا العبث في عالمنا.

شيئان فقط هما ما يجعلاني أنتظر يوما جديدا: الحب وتعاطف البشر مع بعضهم بلا شرط، تلك العاطفة الواقرة في قلوب سليمة والتي تجذب دموعي في الخفاء، حين أرى رقة قلوب البشر في المحن والهزائم.. هنا فقط أشعر بأن الحياة ممكنة ولا خوف على البشر. فكّر زوجي الدكتور أحمد سامي استشاري الطب النفسي في مبادرة لمد يد العون لأهل غزة وذويهم النازحين إلى مصر، بشكل عملي ومستمر، فأطلق إبريل 2024  initiative GEMS أو مبادرة الدعم النفسي لأطفال غزة، والتي قادتنا لرحلة قرابة عام عشنا فيها معهم وسعينا لأن يصلوا لحالة الاستشفاء الجسدي والروحي بمصاحبة نخبة من المتخصصين، وتقنيات عديدة منها العلاج بالفن واللعب وعلاج اضطرابات ما بعد الصدمة والاكتئاب والقلق المزمن ونوبات الهلع. 

جذبتني صلابة الفلسطينيين وإصرارهم على الشفاء وتمسكهم بالحياة، هذا الإيمان الراسخ بالقضاء والقدر وبالقضية الفلسطينية صغارًا وكبارا، سردية كبرى أفردت لها الجزء الأكبر من وقتي كطبيبة وكاتبة وإنسانة وأعترف أنها قد أخرجتني من الشعور الموجع بالعجز.

رأينا في الرواية خيطا يربط شراسة المحتل بين الماضي والحاضر؛ حين تلقي الطائرات الأمريكية بالقنابل فوق الآمنين على وقع النشيد الوطني.. فهل يكرر التاريخ نفسه؟

بالفعل. في رواية كوتسيكا، سردت تفاصيل ضرب الإسكندرية عام 1882 وكيف تم التخطيط البريطاني لاحتلال مصر بخبث ودهاء، والتمهيد للسيطرة عليها، بالتضييق والحصار الاقتصادي وبإشعال الفتن بين الأجانب والمصريين وإطلاق الشائعات وتجنيد الخونة والعملاء، وصفتُ الضرر البالغ الذي استهدف درة البحر المتوسط، والدمار الذي لحق بها وبسكانها، وإصرار الكثيرين منهم على البقاء بها، لمؤزارة الحامية المصرية، ثم طوابير النازحين الطويلة التي اضطرت للرحيل قسرا عن طريق شطوط المحمودية سيرا ومنها إلى دمنهور ثم القاهرة. انتقلت سلطة العالم إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بعد أن أخرست الجميع بالسلاح الذري، لنكتشف أن الروح الاستعمارية واحدة بالبلطجة التي تمارسها الدول الكبرى منتهجةً نفس الأسلوب منذ زمن طويل. 

متى جاء قرارك بكتابة ملحمة أجيال تزاوج بين عائلتين مصرية ويونانية زمن الحرب؟

لـ(كوزيكا) الفضل وراء هذا القرار، كمفردة إنسانية ومكانية وزمانية، كوزيكا هو لقب العائلة اليونانية التي عاشت بمصر قبيل الاحتلال الانجليزي وحتى قيام ثورة يوليو، مع صفحات الرواية يكتشف القارئ ان اسم محطة مترو الأنفاق كوتسيكا المألوف لدى سكان طرة والمعادي وحلوان، هو نفسه كوزيكا والذي يحمل أكثر من دلالة، فهناك كوزيكا الجد الأكبر الذي لم يزر مصر وهناك ثيوخاري تيودور كوزيكا وأخوه بوليخروني وأبنائهما، كلهم يحمل اسم العائلة نفسه، وهناك زمن كوزيكا حيث كانت مصر وبرغم الاحتلال البريطاني وتبعيتها للترك، مثالا فريدا يضرب للأمم في المقاومة بالوعي الاجتماعي والسياسي بقضية الحرية وبممارسة الفنون ونزاهة المثقفين والتنوع العقائدي والعرقي في ذلك الوقت وكيف عاش كل هؤلاء على أرض مصر في انسجام وقبول للآخر. لقد جذبني الانصهار الذي كتب هذا الفصل الفريد من تاريخ مصر. 

  هل آزر يونانيو مصر ثورة عرابي إيمانا بها أم بما تحمله من فرصة لنفوذهم؟

  يقول يؤانيس رجل الأعمال الغني لابن أخيه تيوخاري كوزيكا الشاب الغض الذي قصد الإسكندرية ليحقق أحلام الثراء على أرض الأحلام : “الثورة جيِّدة للمصريين، ستجعلهم في روحٍ معنوية عالية تدفعهم إلى المزيد من أحلام الرخاء والطموح المادي، توهمهم بأن هناك فرصًا حقيقية للتغيير، وهذا ما يهمُّ تاجِرٌ مثلي لن يرد أحدًا طلب مساعدته ليحسِّن من وضعه المالي، “وكله بثمنه” كما يقول إخواننا المصريون”. إشارة إلى المرابين أو مقرضي الأموال من اليونانيين حيث كان الكثير من المصريين يلجأون إليهم إما لأغراض الزراعة المكلفة أو لسد احتياجاتهم اليومية. 

وحقيقة فإن علاقة اليونانيين بالمصريين شديدة الخصوصية، في البداية كانوا تُجَّارًا أربعة من هيلاس: توسيزا، دي أناستازي، زيزينيا وكاسولي، عقل وأذرع محمد علي، كانوا يفكِّرون له وفي الوقت نفسه يحتمون به في ظلِّ حكوماتٍ يونانية ضعيفة، آثروا مصر وصمتوا عن الدخول في حروبٍ قد تُحرِج الوالي أمام التُّرك: أَلَدِّ أعدائهم، وهناك من بقي على هذا العهد من أبناء هيلاس على أرض مصر وخاصة الأغنياء أصحاب الأعمال، فلم ينحازوا للمصريين في ثورتهم على الأتراك، ولا حربهم ضد الإنجليز، ولكن هناك قطاع كبير من اليونانيين انحازوا لثورة 1919، وكان موقف الجالية حينها مشرفا، بل وكانوا ملهمين في مسألة جمع توقيعات الشعب المصري بقصد إثبات الصفة التمثيلية لسعد زغلول ورفاقه. 

  تعلم الأخوان كوزيكا أن التجارة لا قلب لها.. هل تحولت صناعة الكحول للعنة تطارد “الساقي”؟

بنى تيوخاري صَرحَه المزدوج على طروادة الجديدة: طرة المطِلَّة على النيل، المصنع الكبير الذي يصنع فيه الكحول الخام من العسل الأسود، الواجهة الشرعية لأعمال الأخَوَيْن كوزيكا في مصر، الكحول الذي سوف يدخل في صناعة الأدوية وأدوات التجميل والصناعات الغذائية، السبرتو: كلمة سِرِّ التطهير والتعقيم في المستشفيات، وكأن الكلمة قد طهِّرت نفسها وصنعت تاريخًا ناصعًا بأيدٍ إغريقية.

لكن الأخوان كوزيكا هربا من ضغط الإنجليز الذين كانوا يقاومون اي صناعة على أرض مصر إلا من خلالهم، وهربا أيضا من ثورة المصريين الذين ينظرون للخمر وحرمته، بأن أقاما مصنع البيرة ملحقا بمصنع الكحول، في محاولة للالتفاف على حرمتها، ولكن العمال ظلوا يشعرون بأن عملهم جلب لهم اللعنات وعقاب الرب ويربطون بينها وبين مصائب أسرهم، بل وحتى تيودور ابن بوليخروني كوزيكا أصر على بناء زاوية داخل الفابريكة يصلي بها العمال لتحميهم من لدغات العقارب!

هل تثور الرواية للنساء اللاتي ضيعن أعمارهن في انتظار “خلفة الولد”؟

خوض التجربة وحده هو الذي قد يغير من قناعاتنا ويعيد توجيه اختياراتنا في الحياة، مع اعتبار الاختلافات الاجتماعية والثقافية بين جيل (صبر الجميل وشوقة) الذي يردد قول الأمهات قديما عن خلفة البنات، وبين جيل (سِت) التي استكملت تعليمها للطب وتحدت ظروفها فخرجت من شرنقة الجهل واكتمل شعورها بقيمتها.

تحمل الرواية معنى فلسفيًا للحب كملاذ وحيد أمام القسوة والفقد.. حدثينا عن تلك التيمة

قصص الحب في رواية كوتسيكا متعددة ومتداخلة، ولكن أبرزها هي علاقة تيودور بوليخروني كوزيكا  بالممثلة الأمريكية نجمة أفلام السينما الصامتة بيرل وايت، والتي بقيت لأعوام طويلة برغم الصعوبات التي واجهها كليهما، وقد تمسك تيودور بحبيبته حتى مماتها، لكن قصته توحي أننا قد نتجاوز فقدًا لا يعوض حين يأتينا حبٍّ حقيقيّ يجعلنا نحتضن أنفسنا من الداخل.

استلهمت جماليات صوت أم كلثوم في روايتك.. فما الذي يسكبه الفن في نفوس المنهكين؟

 كان يجب أن أكتب رواية مثل كوتسيكا لأشرح علاقتي بأم كلثوم، وتناسيت أني مطربة، أنا هنا مجرد مستمع مخلص للست مثل بطل الرواية عبد العليم، شاهد موهبتها العظيمة تكبر أمام عينيه، كتبت كيف نستقبل صمتها وآهاتها، كيف جمعت أطياف المصريين حول شخصيتها الفنية المتفردة، وكأنها كما قال احد مستمعيها “خزين البيت”؛ فالفن من أهم العناصر التي تشكل مزاج المصريين والذين دوما يعانون من ضيق ذات اليد على مر العصور، “نحن من يكمل عشاه نوم” على صوت القرآن وأم كلثوم وعبد الوهاب وحليم، نشبع عندما نفرح ونطرب ونفوز في مباريات كرة القدم..  

📎 رابط مختصر للمقال: https://www.baladnews.com/?p=1339

موضوعات ذات صلة

ارتجاع المريء.. دليل شامل للتشخيص والعلاج

المحرر

مزارعون يشتكون من انخفاض أسعار الطماطم

المحرر

تفاصيل خطة وزارة الزراعة للنهوض بمراكز تجميع الألبان

المحرر

الزراعة: ضخ كميات من البيض بأسعار مخفضة

المحرر

بسبب القوانين.. النساء تواجه عوائق في تأمين حيازة الأراضي

المحرر

الزراعة تطلق قافلتين بيطريتين لدعم المربين في شمال سيناء

المحرر