ثقافة وأدب

كتّاب يرسمون خطة عودة الروح لبيوت الثقافة

قبل عقود، كتب د.ثروت عكاشة، الأب الروحي لقصور الثقافة المصرية : لقد كان الإيمان بالعدل الاجتماعي في نشر النتاج الثقافي هو الذي حفزني للأخذ بهذا المشروع. ظل الهدف ان تتحول تلك القصور لمدارس ثقافية إلى جانب المدارس التعليمية، خاصة وأن الريف محروم من منابع الثقافة. وما من شك أن قصور الثقافة قد أسهمت إسهاما حقا في خلق جيل من كتاب القصة والمسرح والشعر والزجل والموسيقى من أبناء الأقاليم.

لهذا السبب انتفض المجتمع الثقافي والإبداعي بل والبرلمان ، حين قرر وزير الثقافة د.أحمد هنو، إغلاق 120 بيت ثقافة كائن في شقق مستأجرة، مؤكدا أنه بصدد تقييم شامل لبيوت الثقافة التي لا يذهب الموظفون فيها أحيانا لأعمالهم طيلة سنوات! ما قاله الوزير كان حقيقيا، لكنه لا يعكس الحقيقة كاملة، وهو أن أزمة الإدارة تبدأ أولا وأخيرا من الحكومة نفسها!

الجدار الأخير ضد الظلام

من بين الذين عبروا عن استيائهم من القرار، الكاتب الكبير إبراهيم عبد المجيد والذي تساءل في دهشة: هل يمكن أن أمتلك ثروة مثل بيوت الثقافة ولا أحولها كبلد لمراكز لصقل المواهب الأدبية وعروض الفنون بأنواعها وتعليم الحرف والتراث الشعبي لربط الأجيال بهويتها. ومن قال أن تلك الأنشطة لا يمكنها أن تعود بالربح على قصور الثقافة إذا ما قدم بعضها بأجر رمزي؟

بدوره أبدى الفنان صبري فواز أسفه على نظرة الدولة للثقافة وبرغم كونها الجدار الأخير في حربنا ضد الظلام، مشيرا إلى 563 بيت ثقافة ومكتبة ونادي أدب، يعمل منها بالفعل 220 موقعًا فقط، بينما هناك 343 موقعًا من مواقع قصور الثقافة لا تعمل وعاطلة عن تقديم الخدمة. وقال الفنان أن حلولا كثيرة كان يمكنها انتشال بيوت الثقافة من أزمتها، حتى المالية، ومنها فتح الباب لتبرعات معلنين، أو تطوع شباب المبدعين في القصور المغلقة.

ومن جانبها قالت النائبة والروائية ضحى عاصي في مذكرة “لماذا أرفض إغلاق بيوت الثقافة” أنها حق دستوري لمختلف فئات الشعب، والابتعاد عن ثقافة الربح والخسارة في تقييم الخدمات العامة ويستوي في ذلك الثقافة مع الصحة. كما أن تراجع التفاعل المجتمعي مع تلك البيوت ناتج عن غياب البرامج الجاذبة والرؤية الإدارية والإبداعية. وأبدت الكاتبة دهشتها من التعلل بكونها مبان متهالكة او مستأجرة، وعدم التفكير في ترميمها خاصة وأنها مبنية على أرض الدولة.

اقتراحات خارج الصندوق

وللخروج بحلول عملية، يقول الكاتب والناقد المسرحي يسري حسّان لـ”صوت البلد” أن منظومة الثقافة الجماهيرية هي المنفذ شبه الوحيد لسكان الأقاليم لتقديم مساحات للتنوير والإبداع، وسيظل الحل لتراجع الدور هو التطوير وتدريب الكوادر وليس الإلغاء. وقد شاهدنا نماذج لهؤلاء الذين استطاعوا وضع بصمات ومنهم محمد موسى توني رئيس إقليم وسط الصعيد والذي بدأ مشواره من بيت ثقافة في حي شعبي، وهناك نماذج كثيرة لبيوت ثقافة فعالة في مصر برغم محدودية ميزانيتها، لهذا فنحن نحتاج لتلك البيوت للارتقاء بجيل كامل متخبط بين تيارات هدامة للروح والانتماء.

ويتفق الروائي المصري أحمد قرني أن تفكير الوزارة في إغلاق بيوت الثقافة هو عين المشكلة وليس الحل. ومعظم مبدعي مصر وخاصة من الأقاليم، يعرف جيدا كيف كانت محاضن لإبداعهم في مهده. وإذا ما فكرنا في غلق تلك البيوت فعلينا ألا نندهش حين نرى مقاهي تبيع الثقافة الافتراضية الهشة عبر الانترنت، ولا نندهش حين تنتشر موجات التطرف والمخدرات والإرهاب لأن منافذ الثقافة والفن تنكمش وتترجع للوراء!!

أين قصور الثقافة؟

أين قصور الثقافة أصلا وأين أنشطتها من قضايا الوطن ومشروعه التنموى؟.. هكذا تساءل د.صلاح هاشم رئيس المنتدى الاستراتيجي لدراسات التنمية، مستطردا: وأين بيوت الثقافة في مواجة ظاهرة محمد رمضان والتى تمثل خطراً حقيقياً على دولة القيم .. بل وأين بيوت الثقافة كساحة للترفيه وبديلا عن المقاهي؟! 

لذلك دعا “هاشم” لاستعادة “دور” قصور الثقافة، قبل الدفاع عن مجرد جسد غابت روحه، والنهوض بمشروع قومي يتضمن معايير عادلة وفعالة للتقييم، لتصبح بيوت الثقافة قادرة على مواجهة عنف الشارع وفوضى السوشيال ميديا والترند. 

تجارب عالمية

كافة الدول المتقدمة في التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي تتجه اليوم لإعادة الاعتبار للتعليم المبني على التفاعل الإنساني المباشر مع الفنون والعلوم الإنسانية. فهذه الحاضنات تنمي إنسانًا عطوفًا، متذوقًا للجمال، قادرًا على فهم نفسه والآخر، يحترم الاختلاف، يعمل في فريق، ومستعدًا للمشاركة الإيجابية في مجتمعه. 

بهذه الرؤية تؤكد الفنانة التشكيلية إيمان مكاوي، الأهمية الاستثنائية لبيوت الثقافة، مشيرة لاحتضان أوروبا تجارب لافتة لبيوت الثقافة؛ ففي ربوع فرنسا منذ الستينيات أصبحت تلك البيوت تعبيرا عن اهتمام الدولة بالثقافة كحق إنساني حسب رؤية وزير الثقافة الأسبق أندريه مالرو، وسنرى في إيطاليا مشروعات منها Farm Cultural Park داخل منطقة مهملة من بلدة “فافارا”، وكيف حولها إلى مركز فني وسياحي ساهم في إنعاش الاقتصاد المحلي. في ألمانيا يُعد الذهاب إلى المسرح أو المتحف جزءًا من المنهج الدراسي. أما كوريا الجنوبية فقد أنشأت مراكز ثقافية في كل بلدية، مزودة بمسرح ومساحات مفتوحة للفنون، يتم تشغيلها بشراكة بين الحكومة والمجتمع المحلي.

ولهذا، فإن الطريق لاستعادة بيوت الثقافة يبدأ من ربطها بمجتمعاتها المحلية وإطلاق برنامج وطني لتأهيل كوادر قصور الثقافة بالتوازي مع مجالس محلية من المثقفين، والمجتمع المدني، ومبادرات التمويل المختلط مع القطاع الخاص وتحفيز المبادرات المجتمعية (مثل نوادي القراءة، المسرح التشاركي، تعليم الفنون للأطفال) ودمج الأنشطة الثقافية في الخطط التعليمية لتوفير زيارات منتظمة للقصور. 

ومن الهام كذلك إطلاق حاضنة متخصصة لمشاريع الخريجين في مجالات الفنون والثقافة مع تكوين شبكة لتسويقها، مع إطلاق منصة إلكترونية احترافية تشكل ذاكرة للثقافة المحلية ووسيلة لمزيد من التفاعل مع أنشطة بيوت الثقافة والتبرع لها.

لقد استثمرت مصر على مدار عقود في إنشاء بنية تحتية ثقافية واسعة؛ إذ توجد أكثر من 600 منشأة تابعة للهيئة العامة لقصور الثقافة على مستوى الجمهورية. لكن يظل التحدي الأكبر هو إعادة الروح لتلك المنشآت لتصبح منابر للضوء والوعي.

📎 رابط مختصر للمقال: https://www.baladnews.com/?p=262

موضوعات ذات صلة

صرخات العالم قبل أن تلتهم حرب التجويع أطفال غزّة

المحرر

الكتب رفيقة العزلة بمحتوياتها وملمسها ورائحة ورقها

المحرر

أحمد مستجير.. أديب متنكر في صورة عالم

المحرر

أنظار العالم تتجه إلى أكبر احتفالية ثقافية مصرية

المحرر

الشهاوي: التقديرية أرض جديدة وليست نهاية المطاف

المحرر

الحرب اللبنانية صنعت بمآسيها مدرسة الرواية الجديدة

المحرر