“لست أشك في أن كل قارئ أو سامع لقصصه يفهم عنه في غير مشقة، مهما تكن بيئته ومهما يكن حظه من الثقافة والتعليم، وهو على ذلك يكتب بلغة فصيحة، لا غبار عليها…”كان ذلك هو رأي طه حسين في إبداع نجيب محفوظ بروايته “زقاق المدق” وهو يؤكد أنه برع في تصوير البيئة الشعبية لأهل الزقاق وهي حياة ساذجة ومعقدة وسعيدة وبائسة، حتى إنك تشاركهم حياتهم.
يرى طه حسين أن محفوظ أيضا كان بارعا في تحليل نفوس شخصياته. كما أجاد تصوير الثورة المصرية (1919) في أعقاب الحرب العالمية الأولى، إذ صورها حية متغلغلة في نفوس الشعب المصري على اختلاف طبقاته.
وفي حضرة نجيب محفوظ الذي تحل ذكرى رحيله، نقرأ ما كتبه عمالقة الأدب والنقد عن أدبه وأسلوبه، وقد قدم 34 رواية والمئات من القصص القصيرة، خلال رحلته الحياتية الممتدة من 1911-2006م..
في محبة نجيب
أصدر الناقد البارز رجاء النقاش عدة كتب “في محبة نجيب محفوظ” و”صفحات من مذكرات نجيب” وقد ربطت بينهما صداقت امتدت 45 عاما، بدأت منذ مجيء رجاء النقاش لأول مرة إلى القاهرة عام 1951 من قرية ” منية سمنود ” إحدى قرى المنصورة، ليكمل تعليمه بكلية الآداب، وكان من أعز أهدافه أن يتعرف على نجيب محفوظ، بعد أن أصبح عاشقا له، منذ أن قرأ روايته ” رادوبيس” في قريته تحت شجرة ” جميز”. وتحققت أمنيته عندما اصطحبه الناقد الكبير الراحل أنور المعداوي إلى ” كازينو أوبرا “، وقدمه إلى نجيب محفوظ في ندوته الأسبوعية التي كان يعقدها في ذلك الوقت كل يوم جمعة، وازدادت تلك العلاقة قوة ورسوخا مع الأيام.
اختار نجيب محفوظ أن يكون “كاتباً وأديباً” حسبما يؤكد النقاش، ومن خلال الأدب يستطيع أن يعبر عن مشاعره ومواقفه وأفكاره السياسية، أما العمل السياسى المباشر، فهو شىء آخر، لم يقترب منه نجيب محفوظ، لأنه كان كفيلاً بجره إلى دوامة عنيفة تعوق عمله الأدبى، الذى يحبه ويرى أنه قادر على أن ينجز فيه شيئاً مثمراً.
فى عمله الفذ “ملحمة الحرافيش” يقول: “لو أن شيئا يدوم على حال فلم تتعاقب الفصول”، أو كما قال فى “أولاد حارتنا”: “ومن عجب أن أهل حارتنا يضحكون وعلام يضحكون؟ إنهم يهتفون للمنتصر أياً كان المنتصر، ويهللون للقوى أياً كان القوى، ويسجدون أمام النبابيت يداوون بذلك كله الرعب الكامن فى أعماقهم” لهذا كتب محفوظ “إن الثورات يدبرها الدهاة وينفذها الشجعان ثم يكسبها الجبناء”
وضع محفوظ خطاً فاصلاً بين الأدب والصحافة، فاختار الأدب، وحتى عمله بالصحافة عام 1959 كان عملاً أدبياً، فلم يكن مشغولاً بالمتابعات الصحفية، اليومية المنهكة، إنما كان مشغولاً بإنجاز أعمال أدبية لنشرها بالأهرام.
مقهى يطل على القاهرة
كانت المقاهي مسرحا شعبيا لمحفوظ ونافذته التي يختبر منها أبطال رواياته وقال يوما أنها أكثر صدقا من المكتب ففيها يسمع مصر تتنفس وتتكلم. كثيرا ما اكتسب محفوظ تفاصيل شخصياته من المقهى ومنهم سعيد مهران بطل “اللص والكلاب” وقد تشكل من أحاديث سمعها في مقهى الكرنك. وشخصية “حميدة” بطلها “زقاق المدق” مستوحاة من فتاة كان يراها في أحد المقاهي.
في مقاهي الحسين وباب الشعرية ثم لاحقا ريش وعلي بابا وقشتمر، جمعت رابطة شهيرة بين نجيب محفوظ وعدد من المحبين والكتّاب والفنانين، وترجع تسميتهم بـ”الحرافيش” للفنان أحمد مظهر مستلهمًا إياها من كلمة كانت شائعة عن الصعاليك في مصر. ضمت الشلة أسماء بارزة في عالم الفكر والأدب ومنهم. وكانت احاديثهم تتطرق لما يشغل عقول الناس في الفن والسياسة والأدب والدين والحياة.
كانت “الحرافيش” أيضا واحدة من أشهر روايات محفوظ عن الحارة المصرية وصراع المهمشين الحالمين بالعدالة والفتوات، وهي إسقاطات رمزية على المجتمع.
ثلاثية القاهرة
أول دراسة في العالم الغربي عن نجيب محفوظ كتبها الراهب الأب “جاك جومييه” الدومينيكاني المستشرق ونشرت عام 1957 في مصر وكانت دراسة عن الثلاثية وكانت بين جهود الفرنسيين التي أشاعت إبداع محفوظ للعالم وهو ما قاده لجائزة نوبل لاحقا. وهذه الدراسة قدمها للعربية نظمي لوقا ، وجاء فيها : “في أكثر من موضع ، كان محفوظ يلح في إبراز التوازي بين مستوى التطور الخلقي والعائلي، ومستوى التطور السياسي في مصر. فكما كان الأبناء يتحللون شيئا فشيئا من سيطرة الآباء، كانت مصر كذلك تتحلل من السيطرة البريطانية. وقد كان القالب الهندسي المتكامل، فرصة رائعة، امام نجيب محفوظ، ليعرض لنا المفاهيم البرجوازية في مختلف شئون الحياة والمجتمع، كما عرض بوضوح صراع الأفكار من خلال الأوضاع المادية النابعة منها؛ حيث تقف أسرة أحمد عبدالجواد، التي تنتمي إلى الطبقة المتوسطة الصغيرة، في مهب الريح..
أولاد حارتنا
في مقال منشور بمجلة “أدب ونقد” 1991، يكتب يحيى حقي دفاعا عن “أولاد حارتنا” لنجيب محفوظ، أن شريعتنا الإسلامية تمنعنا من “الدعبسة” في نوايا نجيب محفوظ، برغم أن روايته تنقل فلسفات غربية تهدم الدين بعد تطور العلم، لكن لا أحد يعلم هل نجيب يرصدها ام أنه مقتنع بها فعلا ، والأهم أن نجيب طلب أن يدله أحد على مكان الحارة التي سيكتب عنها، وهنا قدرة نجيب على تحويل الخيال إلى واقع مقنع بهذه الدرجة.
بين القصرين
عن “ملحمة نجيب محفوظ الروائية” يكتب الناقد البارز أنور المعداوي في أبريل 1958 دراسة منشورة بمجلة “الآداب” يقول : “بين القصرين” عمل فني جديد ظفر أخيرا بجائزة الدولة، ونجيب محفوظ، صاحب هذا العمل، ظفر بتقدير النقد قبل أن يظفر بتقدير الدولة، منذ أن بدأت خطوط فنه الروائي تتجمع في نقطتي ارتكاز رئيسيتين: عنصر المراقبة النفسية الدقيقة لشتى التجارب الجماعية المعاشة، لتتركز في برؤة العدسة اللاقطة وتبرز موقف الكاتب من مشكلات عصره، وانصهار الملكة القاصة من جهة ثانية في بوتقة الممارسة المذهبية لكتابة العمل الروائي، بحيث تكون تلك الممارسة تفاعلا ثقافيا واعيا مع المقاييس النقدية المتطورة..
بطل خان الخليلي
في كتابه “قضايا جديدة في أدبنا الحديث” الصادر ببيروت 1958، يكتب الناقد البارز محمد مندور عن بطل رواية “خان الخليلي” أحمد أفندي عاكف، أنه احد آلاف الناس الذين يكونون تلك الطبقة الوسطى، التي يسمونها في أوروبا بالبرجوازية الصغيرة، بعد أن حلت البرجوازية الكبيرة ذات الثراء الواسع الذي تدره الصناعة والتجارة، محل الأرستقراطية القديمة القائمة على الإقطاع، وهي الطبقة التي تشكل العمود الفقري لمجتمعنا المصري. وقد برع محفوظ بتصوير اضطراب حياة تلك الطبقة بالألم والسخط والتمرد، وتخبطها في الجهاد للارتفاع عن مستوى طبقتها الاجتماعي نتيجة لإيمانها المسرف بحقها المضطهد، لكنها مع ذلك تحتفظ بالكثير من أسمى الفضائل الإنسانية والتي ياتي بقمتها تقديس الأسرة وهي حقائق يستطيع أن يتثبت منها أي مصري إذا أمعن النظر بسكان خان الخليلي وغيره من أحياء القاهرة، بشرط أن يمتلك الملاحظة التي تعوذها الكثير من الفلسفة، وهي نعمة وهبها الله لنجيب محفوظ .
حديث الصباح
يكتب الناقد فاروق عبدالقادر بكتابه “أوراق من الرماد والجمر” عن رواية محفوظ “حديث الصباح والمساء” أن محفوظ قدم لونا من التأريخ الفني لأهم نقاط الحاضر الممتد من مجيء الحملة الفرنسية حتي مصرع السادات، وهذا اللون لم يعتمد في جميع الأحوال علي أحداث بارزة أو تجريدات بل تنسجه شخصيات من لحم ودم تأثرت بنقاط تحول فاصلة. وهناك شخصيات ثورية بالمعني الإيجابي تحمست للثورة العرابية وناصرتها بالقلب واللسان وتعرضت بعد هزيمتها للسجن والغربة، ولكنها ذابت في قلب التاريخ وتخللت نسيجه واعتبرت في الضمير الشعبي صاحبة بطولة تضاف في هذا الوجدان إلي عنترة والهلالي.
