ثقافة وأدب

أصل الأنواع .. تجريفٌ يلتهم روح المدينة والبشر

استيقظت مدينة عريقة ذات يومٍ ونظرت في المرآة فلم ترَ غير مسخ يحمل أطلال الماضي، ووجد سكّانها أنفسهم كشجرة تواجه رياح الخماسين فتفقد كل يوم غصنا من أغصانها، وبما أنهم بشر فقد كان الفقد كابوسيًا؛ حيث بدأوا في التحول لهجين أصلع مبتور الأصابع والروح!

تتخذ رواية “أصل الأنواع” للكاتب أحمد عبد اللطيف من نظرية داروين الشهيرة عن التطوّر أساسا فلسفيا، ولا تخفي الرواية في سرديتها تبنيها للقاهرة مسرحًا مكانيًا وموضوعيًا لتطبيق تلك الفكرة؛ فهي المدينة العريقة التي قادت خطط التطوير مؤخرًا لتغيير جذري في نسيجها العمراني الفريد المسجّل في اليونيسكو والذي ظلت القرافة الكبرى جزء لا يتجزأ منه، بقبابها ونقوشها وموقعها الذي  يجعلها رحمًا للمدينة بتعبير الكاتب يزور فيه الأحياء أحبائهم في حياتهم الجديدة الأبدية دون أي شعورٍ بالغربة!

الرواية ذات الطابع الفلسفي تطرح رؤية أعمق حول المدينة بوصفها جسد كبير للأحياء فيها؛ وبوعي شديد بالعمارة يدلف بنا الكاتب عبر تيمة (المدينة/الجسد) وعبر البطل “رام” الذي يمتهن الهندسة المعمارية؛ لتلك الحقيقة التي أدركها الفنانون الأوائل منذ عصر المصريين القدماء فشيدوا مجد عمارتهم في المعابد والمقابر ووصولًا للعصر القبطي وكنائسه ومن ثمّ العصر الإسلامي حيث القرافة متنزه الأحياء الذي يزول فيه الجدار الحاجز بينهم وبين أحبائهم الراحلين.

في غلاف الرواية نرى تلك العلاقة الحميمة التي تربط المدينة القديمة بسكانها في نسيج تقطعه مشاهد كابوسية لأصابع مبتورة. ويحيلك للمعنى تلك الاستشهادات التي تحمل فلسفة العلم شرقا وغربا حول التطور في حياة البشر والكائنات، والتي تؤمن بأن البقاء للأقوى!

تقوم الفكرة المركزية لحبكة الرواية على تساؤل: ماذا لو فقد الإنسان أجزاء من جسده فجأة وكيف ستتغير حياته؟ وهي فكرة رمزية تأتي بمصاحبة هدم المدينة لتقول بأن جسد المدينة هو جسد سكانها.

روح المدينة

“كانت القاهرة الإسلامية مدينة نموذجية في تخطيطها فالجبل والنهر تجليات لآدم في بداية الخليفة كنقطتين مضيئتين في عالم مظلم”

يمكن اعتبار “أصل الأنواع” رواية مكان بامتياز؛ إذ تتفرع بك مع فلسفة عمارة القاهرة بين الجبل والنهر والوادي والبيوت وما طرأ على كل ذلك من رياح التغيير.

تنطلق الرواية من حيّ المنيل الراقي والمجاور لمقابر مصر القديمة؛ ومن هذا المكان استطاع الكاتب أن يقدم توليفة حيّة من أبناء البلد بكل طبقاتهم المتدنية والعليا، والصاعدين بكل سرعتهم بين الطبقتين وباستغلال ظروف الانفتاح الاقتصادي التي شهدتها البلاد نهاية السبعينيات وأبناء طبقة المقاولات.

وتعتمد الرواية فكرة تداخل الأزمنة حين تستحضر حياة المصريين خلال قرن بأكمله عبر تقنية فلاش باك مبتكرة، يستدعي فيها الأشباح الذين أزعجتهم أعمال الحفر ونقل عظامهم، أزمانهم معهم، فيعودوا في الحاضر لنفس بيوتهم التي شهدت ذكرياتهم الدافئة والأليمة مع ثورة 1919 ثم مع نكسة يونيو وتنحي الزعيم جمال عبد الناصر.وهنا تُسائل الرواية تبعات الهزيمة والانفتاح الاقتصادي على المواطنين مع موجة خصخصة الشركات التي وجد أبو البطل نفسه أمامها بمعاش هزيل وهو بعد في الأربعين من عمره.

أبطال مأزومون بالفقد

“ثمة حدث واحد في حياتنا كفيل بأن يجعل الحياة محض غمامة نسير فيها بلا نهاية” هكذا تسير الرواية بين عالمين غمامة المدينة وغمامة الأفراد من سكانها ممن ابتلوا بفقد مروع لأرواحهم وأجسادهم.

شخصيات الرواية تبدأ مع مهندس مكلّف بهدم أجزاء من المدينة وهو “رام”، ومن عنده تبدأ لعنة فقد أشياء من الجسد كشعر الرأس أو الأصابع، كلما استمرت أعمال هدم المدينة. ثم نرى اللص الصعلوك “باتشان” والذي أصبح بائع الفاكهة والمخبر السري، وأخيرًا يحيى الحافي لاعب كرة القدم المشهور والذي عاش حياة الفقر طويلا.

أما بطلات الرواية للغرابة فتقتصر أدوارهن على تقديم المتعة والتسرية بأشكالها، باستثناء امرأتين تمثلان جانب الطُهر وهما “نيفين” زوجة المهندس التي رحلت فغابت شمس حياته، وكذا “مريم” بحمولة الاسم الدينية والتي تجسد شخصيتها زميلة البطل التي بحث فيها عن نسخة أحدث لزوجته حب عمره الأول.

يأتي الحلم كمعادل للأمل المراوغ؛ وهو الحنين المتدفق في القلب؛ وأحيانا يصبح الحلم نبوءة، كما رأى لاعب الكرة في صغره مارادونا ومنحه حركات أصبحت سر شهرته، إلى جانب أعمال السحر والأعمال التي آمنت بها أمه.

أبطال الرواية مرسومون بعمق إنساني فني؛ نرى من خلال السرد طفولتهم التي انطبعت في حاضرهم، فرام المهندس فقد في صغره أخاه المصاب بالسلّ، وتربت داخله عقدة من الموت واستفحلت برحيل زوجته، ومن هنا صار لزاما عليه مع مداومة الأشباح على بيته أن يضيء كل الأنوار. ربما أراد الكاتب أن يجعل سقوطه في بئر الشهوة ايضا معادلا لحالة الضياع وهي المتلازمة المعروفة في أعمال أدبية كثيرة.

تهتم الرواية برسم نفسية الأبطال فـ”رام” المصاب بحالة فصام حادة، يرفض الزواج ويراه مقبرة للحب، وهو مع ذلك يحيا على ذكر زوجته. وسنجده على صعيد العمل ينهض للدفاع عن التطوير الذي سيمنح المدينة رئة جديدة ويرقى بسلوك أهلها، لكنه لاحقا يرفضه بنفس القوة باعتباره قتلا للميت مرتين وقتلا للذكرى!.

نستطيع أيضا أن نشاهد عبر السرد جراح لاعب كرة يحدق في الحياة بعيون طفولته المحرومة والتي تعود إليه بعد إصابته بفقد الأصابع، وهو ما يذكرنا بمأساة اللاعبين الذين تتوقف حياتهم على كرة مستديرة.

سرد غرائبي

“وحين نبكي أحجارًا تتجرح حدقاتنا وحين تسقط الأحجار على صدورنا تصنع ثقوبا نبصر بها”.

تقوم سردية الرواية على صوت الراوي العليم والذي يقدم تطوّرات حياة كل بطل، مع حوارات شحيحة تغلب عليها العامية الدارجة بكل مستوياتها والتي تصل أحيانًا لمستوى القاع الفج في سقوطه لفظا وصورة.

والرواية تهتم بالوصف الذي يجسد مشاعر الأبطال، كأن يقول عن رام فاقد الحب: “قلب ثلجي ليس فيه إلا ثقب ينزف وما من يد في وسعها أن تسدّه” أما اللغة فتعطيك الإشارة مبكرًا لهذه الفوضى التي غمرت روح المدينة؛ لهذا فنحن أمام عبارات متصلة تشبه الكتل الصمّاء بلا علامات ترقيم ولا فقرات، وكأنها تجردت من روحها وأصبحت تائهة مثل الأبطال.

أسبوع الآلام

“أصل الأنواع” تستند لتقسيم يشبه أسبوع الآلام والذي يبدأ من أحد الزعف ويمر بخميس العهد وجمعة صلب المسيح- وفق العقيدة  المسيحية- وتتخذ الرواية من البطل “رام” صورة لذلك المقاوم لهدم المدينة، والذي ينتهي أمره مصلوبا أمام جبّانتها وتدور في عينه غمامتان تحملان صورة قديمة للقاهرة ومآذنها وقبابها وشوارعها، وقبل أن يقوم للحياة من جديد وسط دهشة الجميع.

وينجح السرد في الانتصار للأموات وإرادتهم الكاملة في الحفاظ على حياتهم الأبدية حتى لو استلزم الأمر الصياح المدوي في ترانيم حزينة من مدينة الموت، تبثّ الرعب في نفوس الأحياء واحتلال البيوت التي سكنوها من قبل!

سخرية سوداء

تسكن الرواية السخرية السوداء بدءًا من أشجار الميلاد واللافتات التي تنافق الحكومة والتي يصنعها آخر من بقيت لهم أصابع، وهي تقاليد تستمر حتى مع تحول مشهد المدينة لما يشبه الكابوس الذي تكسو سماءه غيوم رمادية ويسود هذا اللون بكآبته كل ما كان مبهجا من شجر وثمار ونهر، بينما يسير السكان بعرج واضح وبأعضاء تعويضية لذكورتهم وأنوثتهم، بلا ذرة من حزن في قلبهم. إن أسماء الأبطال أيضا مدعاة للسخرية؛ فهي أسماء هندية “رام” و”باتشان” تعيدنا لرمزية البطل المقاوم والوسيم، ثم تسقط تلك المعاني مع حقيقية واقعهم.  وبخفة ظل يتأمل الأبطال كيف ستصبح حياتهم بلا أصابع وبلا شعر، وهل يمكن لصقها بـ”أمير” مثلا، وتسود السخرية من طبيب لم يعرف كلية الطب، ولاعب يقيم لهم مباراة للعرجى فقط ويصبح “الحافي” هو عنوان محل الحذاء الأول في المدينة.

بتر الروح

“من دون أن يعرف الغرباء أن في وسعهم نقل العظام لكن ليس في وسعهم نقل الأرواح”

تعالج الرواية الصادرة عن “منشورات حياة” تيمة الفقد والبتر بوجوه متنوعة فهناك”زنزانة نسكنها رغمًا عنّا حين نستاء من الحياة لأنها قست علينا فبترت منّا الطمأنينة”.لكن أجمل ما تطرحه “أصل الأنواع” هو تلك الفلسفة التي تثبت أن فقد الماضي هو فقد لشخصية الإنسان؛ وفي سبيل ذلك، وفي طريق تساقط الأعضاء، تسقط اللغة نفسها، وتسقط المشاعر، حتى تصبح أغلى أمنيات لاعب الكرة أن يبكي أمه حين تموت.

لقد أصبحت الأيدي هنا في الرواية رمزا للفعل والقدرة وبترها رمز للعجز، لذا يأتي الجنود ساعة الهزيمة في الحلم مبتورين، لكن البتر يحدث فجأة الآن في مدينة الرواية وبلا نزيف ويتحول البشر لروبوت لا يشعر.

يتركنا الراوي مع مصير مجهول للمدينة لكنه يخبرنا بعودة المهندس “رام” إلى قبر زوجته منبع روحه واكتشافه أن “الحب وحده ما يمنح الأشياء معنًى” وأن ماضي البشر يعني مستقبلهم، لقد تمسك بما عاش يؤمن به؛ أن “الحجر لبناء البيت لا قتل العصافير”.

📎 رابط مختصر للمقال: https://www.baladnews.com/?p=1525

موضوعات ذات صلة

صاحبة النساء كاملات عقل ودين: هدفي إنصاف المرأة

المحرر

نداهة أصيل .. ترجمة ذات تتوق إلى النور والانتماء

المحرر

السطوحي: مدرسة خضير البورسعيدي تدعم تعزيز الهوية

المحرر

دينا شحاتة: مزجت الفانتازيا والتراث والواقع في نداهة أصيل

المحرر

الملك لير يصارع أقداره من جديد على خشبة المسرح

المحرر

مصطفى جاد: احتفالات رحلة العائلة المقدسة تراث مصري أصيل

المحرر