فيلم الملحد يعتبر عملاً سينمائياً مصرياً جريئاً أثار الكثير من الجدل، حيث اقتحم بشجاعة منطقة محظورة في المجتمع المصري، متناولًا إشكالية شائكة تجمع بين المقدس والمدنس، وتناقضات يتصارع فيها العقل مع الاعتقاد. هذا الفيلم الذي كتبه الإعلامي إبراهيم عيسى، المعروف بآرائه المثيرة للجدل ضد الثوابت الدينية، استطاع تسليط الضوء على قضيتين متطرفتين: الإلحاد والتطرف الديني، مما فتح المجال أمام نقاش واسع حول حرية الفكر وحدود المقدس في الفن والمجتمع.
فيلم “الملحد” يتناول شخصية الملحد الذي يعيش في مجتمع لا يزال محكوماً بالأصولية الدينية، ويرى أن الحرية الفكرية هي حقه الأصيل. الفيلم يضع هذه الشخصية في مواجهة مع الأصولي المتطرف الذي يرفض كل ما يخرج عن إطاره الديني، مستخدما الإرهاب الفكري والديني لتأكيد وجوده. وهكذا، يبرز الفيلم أن التطرف ليس حكراً على الدين فقط، بل يشمل أيضاً من يتبنى فكرًا إلحاديًا متطرفًا، حيث يجد كلا الطرفين نفسيهما في صراع لا ينتهي على السلطة والهوية.
السينما المصرية اختارت خوض هذا الصراع الفني والفكري بجرأة، وكشفت في فيلم “الملحد” عن انعكاسات هذا الصدام على المجتمع، وكيف أن التطرف في كلتا الحالتين يؤثر سلبا على التوازن المجتمعي والحضاري. الفيلم يظهر المجتمع المصري كما هو، مجتمع يعاني من اختلاط المفاهيم ما بين ما هو مقدس وما هو مدنس، ويُسلط الضوء على ضرورة الانفتاح على قضايا تلامس حرية الفكر والهوية الذاتية.
ردود الفعل الأصولية
مقاومة للفن أم دفاع عن العقيدة لم يكن من المستغرب أن تُثار موجة من الاعتراضات على عرض الفيلم، خاصة من قبل التيار الأصولي الذي رأى في عنوان الفيلم وحده تهديدا صريحا لقدسية العقيدة الدينية. هؤلاء المعترضون طالبوا بمنع الفيلم من العرض، مُستندين إلى حجج تتعلق بالدفاع عن الدين والقيم المجتمعية. لكن المثير للاهتمام أن هذه الاعتراضات جاءت قبل حتى أن يشاهد الكثيرون منهم الفيلم، مما يثير تساؤلات حول مدى قدرتهم على تقبل النقد الفني ومناقشة الأفكار المختلفة.
كلمة “الملحد” نفسها كانت كفيلة بإثارة مخاوف الأصوليين، الذين افترضوا أن الفيلم يروج لفكرة الإلحاد ويهزا بعقائدهم. هذا التفسير المسبق للنوايا يعكس حالة من العجز عن مواجهة الفكر المختلف، حيث أن التعامل مع الأفكار الجديدة يأتي دائمًا في إطار المنع التقييد بدلاً من الحوار والتفكير النقدي. الأصولية المتطرفة، سواء دينية أو إلحادية، تبدو في حالة رفض تام لأي تحد للعقل، فهي لا تسعى إلا لاحتكار الفكرة وتحريم ما لا يتماشى مع معتقداتها.
من ناحيته، أحمد السبكي، منتج الفيلم، يدرك جيدًا التحديات التي يواجهها أي عمل فني يتناول قضايا حساسة كهذه. السينما، كوسيلة تعبير فنية، تمتلك القدرة على استكشاف زوايا قد تكون محظورة في الخطاب العلني، والفن هنا يقوم بدوره الأساسي في كشف الحقائق وتسليط الضوء على قضايا تشكل جزءًا من واقع المجتمع. فيلم “الملحد” لا يسعى لإثارة الجدل لأجل الجدل، بل يحاول أن يكشف عن مدى تعقيد إشكالية البحث عن الهوية الذاتية والاعتقاد الشخصي في مجتمع يغلب عليه التداخل بين المقدس والمدنس.
رسالة الفيلم، التي قد تكون غير مريحة للكثيرين، هي أن المجتمع المصري بحاجة إلى مواجهة هذه الصراعات الداخلية بدلاً من دفنها تحت سطح من القيود والقوانين. الفن هو الساحة التي يمكن فيها استكشاف هذه الأفكار بأمان نسبي، حيث يُتاح للعقل البشري أن يسأل ويفكر ويبحث دون خوف من العقاب. ومن هنا تأتي أهمية أن يبقى الفن حرا في تعبيره، حتى لو كان ذلك يعني مواجهة تحديات من قبل أصحاب الأفكار المتطرفة.
المنع والترخيص
رغم أن الفيلم حصل على ترخيص من جهاز الرقابة على المصنفات الفنية، إلا أن قرارًا إداريا غير معلن أوقف عرضه، مما أثار تساؤلات حول مدى حرية الفن في مصر. هذه الخطوة تظهر أن هناك دائمًا قوى خلفية تعمل على كبح الحريات الثقافية بدعوى الأمن أو الحفاظ على السلم المجتمعي. لكن ما يغفله هؤلاء هو أن المنع لا يوقف الفكرة؛ بل قد يجعلها أكثر قوة وانتشارا.
فيلم “الملحد” كان له تأثيره حتى قبل عرضه على شاشات السينما. فمجرد الجدل الذي أثير حوله يدل على أن قضاياه تلامس مشكلات حقيقية في المجتمع المصري. رسالته وصلت إلى الجمهور حتى وإن لم يتمكنوا من مشاهدته، وهذه الرسالة تقول إن التطرف ما زال قادرا على غلق أبواب الحوار والحرية.
البحث عن الهوية
يمكن القول إن فيلم “الملحد” يطرح إشكالية مركزية حول احتكار العقل في المجتمع المصري. سواء كان الملحد أو الأصولي، كلاهما يسعى لفرض رؤيته الخاصة على الآخرين، وكلاهما يخشى من مواجهة الأفكار المختلفة. لكن بينما يحاول الفن أن يفتح أبواب التفكير والنقاش، يظل التطرف، سواء دينيا أو فكريا، حاجزا أمام حرية التعبير والبحث عن الهوية.
الملحد يبحث عن حقيقة وجوده خارج الإطار الديني التقليدي، بينما الأصولي يتمسك بعقيدته حد التطرف. وفي هذه المعركة بين العقل والاعتقاد، يظل المجتمع المصري بحاجة إلى مواجهة هذا الصراع الداخلي والتعلم من تجارب الآخرين حول العالم، حتى يستطيع تجاوز هذه الإشكاليات والتقدم نحو مستقبل أكثر انفتاحًا وحضارة. ولاكن مع الالتزام بتعاليم الدين من الكتاب والسنة
