
بين أروقة اتحاد كتاب مصر، وعلى منصات المهرجانات الأدبية التي تديرها بحنكة، ترسم الشاعرة عزة رياض لنفسها مساراً فريداً يجمع بين عمق الكلمة الشعرية ورصانة العمل المؤسسي الثقافي. هي صوت أدبي يصدح بقضايا البسطاء والمهمشين، وباحثة في التراث لا تكل، وأمينة سر تسعى لمد جسور التواصل الثقافي محلياً ودولياً، حتى ترجمت أعمالها إلى لغات عدة. في هذا الحوار الشامل لـ”صوت البلد”، نغوص معها في رحاب تجربتها الإبداعية الغنية، ونستكشف رؤيتها للمشهد الثقافي الحالي، ونتعرف على فلسفتها في الكتابة والحياة، وكيف توازن بين دورها كشاعرة مرهفة وحاملة لمسؤولية العمل العام في الوسط الأدبي.
كيف أثرت نشأتك في القاهرة وانضمامك المبكر لاتحاد كتاب مصر في صقل موهبتك وتشكيل وعيك الأدبي وأسلوبك الشعري المميز؟
ولدتُ في القاهرة، مدينة لا تنام، مدينة تعرف كيف تضعك في قلب الحياة منذ الخطوة الأولى. الشوارع، الحكايات، لهجات البشر، الألوان، صخب الأسواق… كلها كانت أول معلم للشعر داخلي. أما بالنسبة لانضمامي المبكر لاتحاد كتاب مصر، فقد منحني هذا؛ بيئة حقيقية، أختبر فيها صوتي، أقترب من كتّاب كبار، أتعلم من ممارساتهم ومن حواراتهم الحية، حيث كان ذلك الانتماء بمثابة نافذة تعلّمت منها الانضباط والمسؤولية وضرورة أن يكون الشاعر جزءاً من حركة ثقافية أوسع من ذاته. ولم تكن نشأتي في القاهرة فقط؛ فقد حظيت بثلاث بيئات مختلفة، فجدي لأبي؛ كان يسكن الريف بمحافظة الشرقية، حيث كان يزرع أرضه بيده، وكان أبي يصطحبنا دوماً إلى هناك فقد عايشت تلك الحياة، أما جدي لأمي فكان يقطن العجوزة، مجتمع أقرب للحياة الراقية والحداثة؛ أما عني؛ فأنا من مواليد منطقة العباسية، بما تحملها من عراقة وفئات مجتمعية مختلفة. كل ذلك قد شكل وجداني الداخلي.
أنتِ باحثة في التراث وشاعرة في آن واحد، كيف يغذي هذان الجانبان بعضهما البعض في تجربتك الإبداعية، وأين يلتقيان؟
البحث في التراث علّمني احترام التفاصيل الصغيرة، وصوت الإنسان العادي الذي قد لا يلتفت إليه أحد؛ فكل معلومة تراثية تحمل خلفها حكاية، وكل حكاية تحمل خلفها شعوراً إنسانياً.
والشعر هو القدرة على التقاط هذا الشعور؛ لهذا يلتقي الاثنان عند نقطة الإصغاء؛ فالإصغاء للماضي كي أفهم الحاضر، والإصغاء للإنسان كي أكتب عنه بصدق، ومحاولة إبراز الهوية المصرية داخل النصوص؛ هي أحد أهدافي الذي أسعى إليه للمحافظة على أصالة النص.
ما هي الفلسفة التي تقف وراء اختيارك لمناقشة قضايا المهمشين كقاسم مشترك في العديد من أعمالك، وتحديداً في مجموعتك “أشخاص قد تعرفهم”؟
لأنني واحدة منهم، أو على الأقل لأنني أرى نفسي فيهم، حيث أؤمن أن كل إنسان مهم، حتى لو لم يُمنح فرصة للظهور؛ فهناك أشخاص قد تعرفهم؛ ليسوا أبطالاً خارقين، لكنهم يمتلكون قوة من نوع آخر، ألا وهي قوة الصبر، والرضا، والحلم الصغير الذي يكبر في الظل؛ فأنا أكتب عنهم لأن الكتابة الحقيقة لا تصعد المنابر؛ الشعر ينزل إلى الأرض حيث يعيش هؤلاء.

بالنظر إلى دواوينك مثل “حياة”، “طرح الليل”، و “الخروج من الأرض”، كيف تصفين رحلة تطور تجربتك الشعرية من ديوان لآخر؟
كل ديوان منها؛ يمثل مرحلة روحية وفكرية. “حياة” كان اكتشافاً للذات، ومحاولة لترتيب العالم من حولي، و“طرح الليل” كان مواجهةً مع العتمة؛ ومع الخوف والقلق والأسئلة التي تزعج الروح. أما “الخروج من الأرض” فهو بحثٌ عن معنى جديد.. عن ولادة ثانية تحاول تحطيم السقف الذي يحدّ الوجدان. وها أنا اليوم أشعر أن صوتي الشعري أصبح أكثر هدوءاً، لكنه أعمق، وأكثر يقيناً بأن اللغة ليست هدفاً، بل وسيلة للفهم والتواصل.
وصل صوتك الشعري إلى العالمية بترجمة قصائدك إلى الإسبانية والفرنسية؛ ما هو شعورك تجاه هذا الانتشار، وماذا تهدفين من هذا التفاعل مع ثقافات مختلفة؟
الترجمة بالنسبة لي ليست مجرد انتشار، بل اختبار لقدرة النص على العبور؛ فحين تُقرأ قصيدتي بلغة أخرى، أشعر بأن التجربة الإنسانية انتصرت على اختلاف الجغرافيا. يسعدني أن تصل أصوات شخصياتي البسيطة إلى قارئ يعيش في مكان بعيد، وأن يجد نفسه فيها، ولو قليلاً؛ فالترجمة تجعلني أؤمن بأن الشعر، رغم كل شيء، لغة كونية متفق عليها مثل صوت الماء والطيور.
ما الذي يميز عملك الأخير “آ دم بين الكتلة والفراغ”، وما هي الرسالة الجديدة التي تسعين لإيصالها للقارئ من خلاله؟
ما يُميز ديوان آدم بين الكتلة الفراغ، أنه بداية مرحلة جديدة في حياتي، فهو عدة تجارب متنوعة؛ لا تشبه بعضها البعض؛ لكنها تجاورت؛ لتصنع حالة من الفوضى الخلاقة؛ أي أنه لايحمل نفس واحدة في موضوعاته، وربما يغلب عليه بعض النظريات الفلسفية.

بصفتك أمين عام لأحد المهرجانات الأدبية البارزة، كيف تقيمين المشهد الشعري الحالي في مصر والعالم العربي؟ وهل هو في أفضل حالاته؟
المشهد اليوم متنوع ومليء بأصوات جديدة مدهشة؛ فهناك جرأة في التجريب وعودة قوية للقصيدة النثرية والعامية وتزايد لمنصّات مستقلة تمنح الشعراء فرصاً للتعبير. لكن في المقابل، نعاني من تشتت المواهب وغياب المؤسسات الداعمة بالشكل الكافي؛ فالمشهد ليس في أسوأ حالاته، لكنه قطعاً قادر على أن يكون أفضل إذا توافرت بنية مؤسسية تليق بحجم الإبداع الموجود.
كيف يمكن للحوار الوطني والمبادرات الثقافية أن تسهم في إثراء الحياة الثقافية والديمقراطية في مصر، وما هو الدور المنوط بالمثقف في المرحلة الراهنة؟
الحوار الوطني خطوة مهمة لأنه يُعيد الثقافة إلى قلب النقاش العام؛ فحين نتحدث عن الثقافة كقوة ناعمة، فنحن نتحدث عن قيم التسامح، واحترام الاختلاف، وبناء وعي جمعي ناضج. أما المثقف، فدوره اليوم أصعب، حيث إنه من المفترض أن يكون صوتاً ضمير، وليس صوتًا للسلطة، إذ يجب أن يقف إلى جانب الناس، لا فوقهم.
ما هي أبرز التحديات التي يواجهها الشاعر أو الكاتب المصري اليوم، وكيف يمكن التغلب عليها من وجهة نظرك؟
إن أبرز التحديات التي تواجه الكاتب المصري في الوضع الراهن، تكون ما بين تحديات خاصة؛ أهمها: ضيق الوقت بسبب ضغوط الحياة الاقتصادية، ضعف منظومة النشر والتوزيع، تراجع مستوى النقد الجاد، وهيمنة وسائل التواصل التي تخلق ضوضاء حول النصوص الجيدة. لكن الحل دائماً يبدأ من الإصرار؛ فالكاتب الذي يؤمن بقيمته سيجد طريقاً، مهما كانت الظروف معاكسة.

بعيداً عن صخب الأدب والكتابة، ما هي القضايا الاجتماعية أو الإنسانية التي تشغل بالك حالياً؟
أهم ما يشغلني اليوم هو كرامة الإنسان… كيف يعيش ؟ كيف يتعامل مع الضغوط ؟ كيف يحافظ على روحه وسط القسوة اليومية والانفلات الاخلاقي. كما يشغلني أيضًا وضع المرأة والطفل والحق في التعليم والثقافة والعمل وتكافؤ الفرص، فتلك ليست قضايا بعيدة عن الشعر أو القصة أو الرواية؛ بل هي قلبها الحقيقي.
ما هي النصيحة الذهبية التي تقدمينها للشعراء الشباب الذين بدأوا للتو مسيرتهم الأدبية ويتطلعون لنشر أعمالهم؟
نصيحتي للشباب هي أن يتجنبوا الوقوع في شبكة الإحباط واليأس فالتعرف على تجارب الآخرين ليست الشعرية فقط ولكن الإنسانية أيضًا لمعرفة مواطن الاختلاف والتشابه للاستفادة القصوى. أقول لشباب الشعراء الجدد؛ اقرأوا كثيرًا … أكثر مما تكتبون. لا تتعجلوا النشر، فالنص ينضج مثل الثمر. ولا تخافوا من التجريب، ومن الإخفاق. الأهم اكتبوا لأن الكتابة ضرورة، لا لأنها وسيلة للظهور، حيث إن تصفيق الآخر لا يعني عظمة الإبداع حتى لا نقع في فخ الغرور. إذ إن الكاتب الحقيقي أو الشاعر الحقيقي دائماً هو في حالة عدم رضا عن نفسه ودائماً يبحث عن الأفضل وليس عن الكم فعليه أن يسعى ليكون النسخة الأفضل من ذاته.
