ثقافة وأدبسليدر

براءة الأيوبي لـ”صوت البلد”: الرواية متنفس الروح ومساحة الذات

في رحاب الأدب اللبناني المعاصر، يبرز اسم الكاتبة براءة الأيوبي كصوتٍ أنثوي متفرد، نسجت حروفها بين عبق طرابلس وأصالة المشهد الثقافي العربي؛ فهي التي لم تحد مسيرتها الأكاديمية في العلوم السياسية من شغفها بالكلمة، بل ربما أضافت عمقًا جديدًا لرؤيتها للحياة والإنسان؛ إذ تتنقل الأيوبي برشاقة بين أجناس أدبية مختلفة، من الرواية التي تسبر أغوار النفس، إلى القصة القصيرة والنصوص الوجدانية العميقة كـ”لو كنت قصيدة” و”المسكونة”.

في هذا الحوار نغوص معها في كواليس تجربتها الإبداعية، ونستكشف كيف تشكلت رؤيتها الأدبية، وما هي الرسائل التي تسعى لإيصالها من خلال أعمالها التي حققت حضورًا لافتًا. سنفتح معها صفحات مسيرتها، ونتعرف على مصادر إلهامها، ونبحث في تحديات الكتابة في زمننا هذا.. وإلى نص الحوار:

كيف أثرت نشأتكِ في طرابلس ولبنان عمومًا على شغفكِ بالأدب والكتابة؟

كل فرد هو بالتأكيد ابن بيئته ولا يمكننا أن نفصله عن مجتمعه المُثقَل بالقضايا السياسية والاجتماعية والثقافية وغيرها… بناء على ذلك لا بدّ أن يحمل المثقف أو المبدع أو الكاتب قضايا من مجتمعه ويسعى لإزاحة الستار عن بعض الهموم والمشاكل التي تطفو على السطح في محاولة لإيجاد الحلول المناسبة في قالبٍ إبداعيّ يتلاءم مع توجّهاته وخياراته.

وأنا كسواي طبعاً لا أعيش في بيئة اجتماعية افتراضية خالية من المشاكل والأزمات.. لا يكاد ينقضي يومٌ دون أن ألتقط مأساة لأشخاص مقربّين أو لمعارف عبروا حياتي وأدركتني أحزانهم..

الوضع العام السائد في لبنان سواء على الصعيد السياسي أو الأمني أو الاجتماعي، لا بدّ وأن يترك آثاره و يُترجم قلقاً وتوجّساً من الغد وحتماً لا بدّ وأن تظهر انعكاساته على أيّ إنتاج أدبي أقدّمه للقرّاء.. وهذا أمر طبيعي، فالإنسان مهما حاول الانسلاخ عن واقعه، لا بدّ وأن تظهر تجليّاته بطريقة أو بأخرى… وعند الكاتب الأوراق هي من تفضح الكوامن والهواجس..

حصولكِ على إجازة في العلوم السياسية والإدارية، ثم العمل كأستاذة لمادة التربية الوطنية، كيف انعكس هذا التنوع على رؤيتكِ الكتابية وأسلوبكِ الأدبي؟

أن تكون دارسًا للعلوم السياسية، يعني أن تنظر إلى المحيط بعدسة تحليلية معمّقة؛ أما كونك أستاذاً للتربية الوطنية، فذلك يعني أن تحمل على عاتقك مسؤولية زرع الانتماء كقناعة وأسلوب حياة. انطلاقاً من ذلك لم يكن قلمي يوماً مجرد أداة للكتابة فقط، بل وسيلةً، حيث أُعبّر من خلاله، عن الإنسان وهمومه وهواجسه المختلفة. أكتب كما أُدرّس بشغف، وبدافع المسؤولية، وبإيمان أن الكلمة موقف، وأن الحبر قد يكون أبلغ من السيف.

متى شعرتِ بالدوافع الأولى للإمساك بالقلم وبدء رحلتكِ في عالم الأدب؟

في الحقيقة لا أذكر زمناً محدّداً للبدايات، غير أني ومنذ الصغر على علاقة وثيقة بالقلم، فقد تعلّمت على مرّ الزمن أن أقرأ ذاتي والآخرين.. أن أخطّ من تردداتي النفسية رسماً بيانياً أنسجه بشكل بنصوص نثرية.. أن أجعل من أوراقي الملاذ الذي آوي إليه حين تصخب الروح بحكايا النبض…

دائماً، أُنشد في الكتابة سكينةً تتسلل بين الأوردة وهدأةُ تلملم مشاعر انتثرت مني هنا وهناك، حيث ألجأ إلى قلمي عندما أستشعر غربة في الروح، أو فرحاً يكاد يُحيلني فراشة تتراقص على وقع الخَفق.

تتنوع مؤلفاتكِ بين الرواية والمجموعات القصصية والنصوص الوجدانية مثل “لو كنت قصيدة” و “المسكونة” و “ورد جوري”. أي من هذه الأجناس الأدبية تجدين نفسكِ فيها أكثر تعبيرًا عن مكنوناتكِ؟

الرواية هي المساحة الفعليّة التي أعثر على ذاتي تتبخر بين أروقتها، وأشعر أنّني ومن خلالها أستطيع التعبير أكثر عن ذاتي الكتابية وإطلاق العنان لقلمي وحِبري ومشاعري، فمنذ أن بدأت بكتابة النصوص الوجدانيّة كانت الرواية تستهويني كقارئة وكاتبة في آن واحد؛ لكن خطوةٌ كهذه احتاجت منّي وقتاً حتى تنضج وتتضح معالمها رغم شوقي الكبير إلى خوض غمارها؛ فمن واجب الكاتب أن يتقن صنعته، شأنه في ذلك شأن أيّ مبدع في أيّ مجالٍ آخر، إن أراد التميّز وترك بصمةٍ خاصّةٍ به.

ومن النصوص الأدبية؛ انتقلتُ إلى كتابة القصة القصيرة التي  شكّلَت بالنسبة لي جسرَ عبورٍ نحو الرواية، فقد تمكَّنتُ بواسطتها من كشف النقاب عن ذاتي الكتابيّة وقدراتي السرديّة بعيداً عن النصوص النثرية الوجدانيّة التي تمرّستُ عليها واعتدتُها منذ زمن..

واليوم أستطيع أن أقول بأنّني عثرتُ على ذاتي الكتابية من خلال الرواية؛ فالقدرات السرديّة للكاتب تتجلّى بشكل أوضح لدى الروائي الذي يستطيع أن ينفذ إلى أدق التفاصيل ويتغلغل بين مسامات المشاعر والتردّدات النفسيّة وينسج بعباراته رسماً بيانيّاً عن الشخصيات قد يطول أو يقصر بشكلٍ يخدم أهدافه وتوجهاته. وهذا ما يميّز الرواية عن سواها من الأشكال الإبداعية الأخرى والتي لا تقلّ أهميّة بالتأكيد عنها.

كيف تختارين الأفكار التي تحولينها إلى روايات أو قصص؟ وهل هناك قضايا معينة تحرصين على تناولها في كتاباتكِ؟

كل رواية أكتبها تحمل بين سطورها حكايا أشخاص عايشتُهم أو سمعت عنهم من مقربين أو أصدقاء أو حتى عابري سبيل، فأحياناً تستثيرني حادثة سمعتُ عنها أو مشهد عابر في طريقي أو ربما كلمة قد تقال فتثير في رأسي ضجيجاً لا يلبث أن يتحوّل إلى فكرة.. كل رواية أكتبها لا بد وأن تتناول جانباً من المشاعرالصاخبة تنوعاً من فرح وقلق وخوف وحب وحنين… ومن أجل ذلك أحرص دائماً في كتاباتي ألّا يخرج القارئ إلّا وقد عايَنَ حالةً إنسانيّةً واجتماعيةً معيّةً واختبر مشاعر إنسانيّة مختلفة تضعه أمام تساؤلاتٍ حول ذاته والآخرين في زمنٍ أصبحت فيه المادة هي المحرّك شبه الوحيد للبشر.

مجموعتكِ القصصية “المسكونة” تجمع بين الواقع والخيال. ما هي الحدود الفاصلة بينهما في عملكِ، وكيف توظفين الخيال لخدمة الواقع؟

معظم الشخصيات الواردة في “المسكونة” لها ارتباط نوعاً ما بالواقع الذي يشكل نقطة البداية بالنسبة لأيّ مشروع كتابيّ سواء قصّة أم رواية أم نثريات وجدانية.. لكن الانغماس التام في الواقع وتجسيده كما هو على الورق قد يفقد العمل الأدبيّ الكثير من بريقه. لا بدّ وأن يتداخل الخيال مع الواقع في توليفة تحقق توازناً  مقبولاً بينهما، فالخيال ضروريّ جداً للكاتب، وهو عالم بحد ذاته.. فيه تتكون علاقات، تُبنى أسر وتتفكك أخرى..

وفي ثنايا الخيال يمكن العثور على أخٍ أو صديق… تحديد مواعيد ولقاءات… كتابة قصائد عشقية لحبيب لا يتكرر… يمكن شنّ حروب، تحقيق فتوحات أو الوقوع في براثن الهزائم والانكسار..

هناك تجارب كتابية لكثير من المبدعين، سواء على صعيد الشعر أو الرواية، نالت حظاً وافراً من النجاح وقاعدتها الأساسية خيال المبدع الذي يضفي على العمل الإبداعيّ نكهةً متفرّدة. لذا، فإن جذور كلّ قصة في “المسكونة” ممتدة لتصل الواقع بالخيال، وتتناول جانباً من المشاعرالصاخبة تنوعاً من فرح وقلق وخوف وحب وحنين… كل قصّة هي مزيج من حالات إنسانية متنوعة قد نصادفها في أيّ وقت وأيّ مكان،

ما هي التحديات التي تواجهينها ككاتبة لبنانية في ظل المشهد الثقافي الحالي، لا سيما فيما يتعلق بالنشر والتوزيع؟

الأزمة الحالية في لبنان كان لها أبلغ التأثير على الساحة الأدبية، وقد  تجلّى ذلك من خلال التراجع الكبير في مجال شراء الكتب المختلفة بعد الارتفاع الهائل في أسعارها أمام تراجع القدرة الشرائية للمثقف بشكل عام. كما وأن معرض بيروت الدولي للكتاب وبعد أن تمّ تعليقه لمدّة ثلاث سنوات بسبب الأوضاع الاقتصادية والصحية، عاد ولكن بشكلٍ خجول فاقداً لوهجه السابق مسجلاً تراجعاً كبيراً مقارنةً بسواه من المعارض العربية.. الأزمة الاقتصادية انعكست على مختلف المجالات والقطاعات، والحركة الثقافية في لبنان تضررت كثيراً سواء على مستوى إصدار الكتب أو بيعها على حدٍّ سواء.

ومن خلال ملاحظاتي لما يجري على الساحة الأدبية العربية بشكل عام،  فأنا أرى أن معظم مشاكل النشر التي قد تعترض المبدع في العالم العربي إلى جانب المسألة المادية حتماً؛ فتتركّز حول بعض المواضيع الحساسة كالمسائل الدينية – الأخلاقية أو السياسية… عملياً، لم يواجهني مثل هذا الموقف من قبل، فأنا بداية ملتزمة أخلاقياً، ولا أميل مطلقاً إلى تجاوز حدود القيم التي أؤمن بها إيماناً مطلقاً، والتي لا بدّ وأن تتجلى في كتاباتي بطريقة عفوية ودون قصد مني.

وبالتأكيد لديّ أيضاً اهتماماتي السياسية،.وأنا أتفاعل مع مختلف الأحداث والقضايا العربية، وأملك هواجسي الوطنية خصوصاً في المرحلة التي يمر بها لبنان حالياً، وأحاول أن أقوم بدور وطنيّ فعليّ ولكن من خلال مهنتي كأستاذة للتربية الوطنية.. أنا لست كاتبة سياسية، بل اهتماماتي أدبية.

هل لديكِ طقوس معينة للكتابة؟ وما هو الوقت المفضل لديكِ للإبداع؟

إن زمن الكتابة هو المهم بالنسبة لي، إلّا أنني لا أتبع طقوساً كتابيةً محدّدة؛ فأنا قد أنفرد بغرفتي لأقوم بالكتابة، أو قد أكون وسط صخب وضجيج كبير وأمارس فعل الكتابة فأنسلخ عندها كليّاً عن المحيط لأغرق في ذاتي وحروفي.

المسألة لا ترتبط عندي بالمكان، بقدر تعلّقها بحالتي النفسية التي تعتبر المؤثر الأول والأخير على مزاجي الكتابي، لكن من الأمور الأساسية التي بدأت أحرص عليها مؤخراً، هو عدم انقضاء أي يوم دون القيام بفعل الكتابة ولو كان ذلك الأمر لا يتجاوز بضعة سطور.. وهذا لا يعتبر بالأمر الصعب، ذلك أن نهاري عادة يكون صاخباً بالتقلبات المزاجية تبعاً للكثير من المواقف التي تعبرني والأشخاص الذين أصادفهم، ممّا يخلق أمامي مساحةً لا بأس بها لتمرّد الحبر وجنونه.

من هم الكتاب الذين أثروا في مسيرتكِ الأدبية، سواء من لبنان أو العالم العربي أو خارجه؟

كل كتاب قرأتُه أعتبره حجر أساسٍ في بناء شخصيتي الأدبية؛ فليس هناك كاتب محدّد بل هناك كتابات مختلفة ومتنوعة سواء لكتابٍ معروفين أو حتى مغمورين، فالنص هو من يملك القدرة على التأثير، وقد يكون لكاتب مخضرم أو لآخر شاب ما زال في طور تشكيل هويته الأدبية.

ما هي رسالتكِ التي تودين إيصالها للقارئ من خلال مجمل أعمالكِ؟

نحن مجتمعات استهلاكية بامتياز، أرانا نستهلك وبمتعةٍ كل ما يردنا من الغرب من نتاجات وأفكار وايديولوجيات، ومن هنا أرى دور الكاتب الذي قد يقف بكتاباته سداً منيعاً بوجه أي أفكار دخيلة قد تَرِد إلينا أو محاولات لترويض مجتمعاتنا فكرياً.. إن الإنتاج الفكري العربي بما يتناوله من مواضيع اجتماعية وسياسية وغيرها؛ يصلح أن يكون مادّة استهلاكية للقارئ العربي، ومن هذا المنطلق؛ أسعى دائماً وعلى قدر المستطاع، أن تكون كتاباتي مرآةً تعكس قيمنا واهتماماتنا وتتناول همومنا وقضايانا في محاولةٍ للفت انتباه القارئ  إلى محتوى أدبي نستعيض به عن أي أفكار دخيلة قد تساهم في تردّي أوضاعنا، وتصدّع منظومتنا الاجتماعية.

ماذا عن مشاريعكِ المستقبلية؟ هل هناك رواية جديدة أو مجموعة قصصية قيد الإعداد حاليًا؟

حالياً أنا بانتظار صدور روايتي الجديدة عن دار الآن ناشرون وموزعون في الأردن، والتي تتناول مسألةً شائكة تعاني منها معظم الدول العربية وتندرج في إطار العادات والتقاليد التي تتحكّم بالسلوكيات وتحدّد المصائر بشكل مريب. كما أنني في صدد كتابة روايةٍ أخرى بدأت ترتدي نسيجها السردي وتتضّح معالمها الزمانية والمكانية.

في ختام حوارنا، ما هي نصيحتكِ للكتاب الشباب الذين يسعون لدخول عالم الأدب والنشر؟

القراءة أولاً وأخيراً، فكل كاتب هو بدايةً قارئ نهم، ولا يمكن لأيّ كاتبٍ مهما تكاثرت أعماله وتعدّدت أن يطوّر من نفسه ما لم يتعرّف وباستمرار على تجارب الآخرين ويطّلع على مختلف المواضيع والمجالات الفكرية، ومع ما نشهده اليوم من تطور تكنولوجي وسيطرة مريبة للذكاء الاصطناعي، أوجّه دعوةً صريحة للكتاب للالتزام بالأمانة الأدبية والإخلاص في الكتابة بالاعتماد على القدرات الإبداعية الذاتية، فالكتابة هي قبل كلّ شيء روحٌ يمتاز بها كل كاتب عن آخر وليست مجرّد كلمات منمّقةٍ ومرصوفةٍ بطريقةٍ فنيّة، فالكتابة أخلاق، والكاتب قدوة.

📎 رابط مختصر للمقال: https://www.baladnews.com/?p=8310

موضوعات ذات صلة

إحياء التراث المعماري.. تجارب منفردة تفتقد الرؤية الشاملة

المحرر

الزراعة تحذر المزارعين من آفة خطيرة تصيب البطاطس

المحرر

نيللي كريم تعود في رمضان 2026 بـ”على قد الحب”

حسن عبدالعال

خروقات وانتهاكات الانتخابات البرلمانية.. من يقف وراءها؟

محمود كرم

الزراعة: القطاع يستهلك 80% من الموارد المائية

المحرر

د. كرمة سامي: نهضة إفريقيا الزراعية نقلة في تاريخ المركز

المحرر