في ساحة الكرامة بالسويداء، وفي مشهد بات مألوفاً في مدينة عاشت سنوات طويلة على هامش الصراع السوري، احتشد العشرات في أول مظاهرة ضد السلطة السورية الجديدة، التي تشكلت بعد إطاحة نظام بشار الأسد في نهاية 2024. رفع المتظاهرون رايات التوحيد، ورددوا شعارات ترفض استمرار النهج القائم، متهمين الحكومة المؤقتة بأنها تسعى فقط للتمسك بالمناصب دون تقديم رؤية حقيقية لبناء دولة حديثة تستوعب الجميع. كانت هذه المظاهرة نقطة تحول، ليس فقط لأنها كسرت حاجز الصمت، ولكن لأنها عكست أيضاً حالة الغضب والشكوك التي تراكمت منذ الإعلان عن تشكيل الحكومة الجديدة
المهندس علي عبدة، رئيس مجلس التعاون العربي، يرى أن هذه المظاهرات لم تكن مفاجئة بقدر ما كانت متوقعة منذ اللحظة التي سقط فيها النظام السابق. فالمشكلة، من وجهة نظره، ليست في الحكومة الجديدة فقط، بل في غياب رؤية وطنية جامعة تستطيع مخاطبة جميع الأطياف. يؤكد أن المجتمع السوري، وخاصة في السويداء، يرفض أي وصاية خارجية، سواء جاءت من إسرائيل أو غيرها، لكنه أيضاً يشعر بأنه مستبعد من صناعة القرار، وهو ما يفتح الباب أمام احتجاجات شعبية قد تتصاعد في المستقبل. كما أن نجاح هذا الاتفاق مرتبط بمدى قدرة السلطة السورية الجديدة على الالتزام بتعهداتها، واحترام خصوصية السويداء وعدم التعامل معها كملف أمني فقط. فالتجارب السابقة، كما يقول عبدة، أظهرت أن أي محاولات لفرض حلول أمنية بمعزل عن التوافقات السياسية والاجتماعية غالباً ما تؤدي إلى نتائج عكسية، وهو ما قد يعيد إنتاج الفوضى والانفلات الذي يعاني منه الجنوب السوري منذ سنوات.
حالة من الترقب داخل السويداء
على الأرض، تبدو الصورة أكثر تعقيداً. فإلى جانب المظاهرات، والاشتباكات المتفرقة التي شهدتها جرمانا مؤخراً بين مسلحين دروز وعناصر أمنية، ثمة حالة من الترقب داخل السويداء لما ستؤول إليه الأمور في الأيام المقبلة. هل تنجح السلطة الجديدة في بناء علاقة ثقة مع السكان، أم أن الخلافات تتفاقم لتأخذ شكل صدام مباشر هذا السؤال، وفقاً للواء يونس السبكي، مرتبط ليس فقط بالسياسات الداخلية، بل أيضاً بمدى قدرة دمشق على تحييد التدخلات الخارجية، وخصوصاً الإسرائيلية.
التهديدات الإسرائيلية، التي أعقبت اشتباكات جرمانا، أعادت تذكير أهالي السويداء بتجربة 2015، عندما تحركت إسرائيل لاحتواء أي خطر يهدد الدروز في جبل الشيخ. هذا التاريخ حاضر في أذهان الجميع، لكنه اليوم يتقاطع مع معطيات جديدة، أبرزها التغيرات في بنية السلطة بدمشق، وتبدل التحالفات الإقليمية والدولية. وفي ظل هذا المشهد المعقد، يدرك أبناء السويداء أن الحفاظ على هويتهم يتطلب أكثر من مجرد شعارات أو اتفاقات أمنية مؤقتة
السويداء، التي تمتلك خصوصية طائفية واجتماعية منذ عقود، لم تكن يوماً لاعباً هامشياً في المشهد السوري. فمنذ عام 2011، مروراً بالمظاهرات السلمية ضد الأسد، ووصولاً إلى الموقف الحاسم في ديسمبر 2024 الذي شهد إسقاط النظام، كانت المحافظة دائماً في موقع الطرف المراقب المحفز، لا تنخرط بالكامل في الصراع المسلح، لكنها تحتفظ بمسافة أمان تتيح لها المناورة وفقاً لمتغيرات الداخل والخارج. هذه المسافة،
وفقاً للواء يونس السبكي، الخبير الاستراتيجي، باتت اليوم أضيق من أي وقت مضى، خصوصاً مع التهديدات الإسرائيلية الأخيرة بالتدخل المباشر لحماية الدروز.
وأشارإلى تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي بسرائي من كاتس حول الاستعداد للتدخل عسكرياً إذا تعرض الدروز للخطر، تحمل في طياتها أبعاداً خطيرة تتجاوز البعد الأمني. فهي، من ناحية، تعيد فتح الملف الدرزي إحدى أوراق الضغط الإقليمية، ومن ناحية أخرى، تمنح الحكومة الجديدة في دمشق ذريعة إضافية لتعزيز خطابها حول المؤامرة الخارجية. ويرى السبكي أن الحكومة السورية الجديدة قد تلجأ إلى استثمار هذا التصعيد الإسرائيلي لإعادة ترتيب المشهد الأمني في السويداء، وهو ما بدأ فعلياً من خلال الاتفاق الذي أعلنته حركة رجال الكرامة مع وزارة الداخلية لتفعيل الأمن العام.
حركة رجال الكرامة، التي تحظى بثقل اجتماعي وأمني كبير داخل السويداء، وجدت نفسها في موقع حساس بين رغبتها في الحفاظ على الاستقلالية التي اكتسبتها على مدار سنوات، وبين الحاجة للتنسيق مع السلطة الجديدة لضبط الأمن في المحافظة. الاتفاق الأخير مع وزارة الداخلية السورية، الذي يقضي بتعيين قيادات محلية من أبناء السويداء في مواقع أمنية حساسة، يعكس محاولة الطرفين بناء شراكة حذرة تحمي مصالح الجميع دون أن تسقط الحركة في فخ الارتهان الكامل للدولة.