رياضةسليدر

سباحة بلا أمان.. الأرواح أولاً أم الأرباح؟

السباحة كانت دائمًا تعتبر رياضة نبيلة ومهارة حياتية مهمة، كما يُنظر إلى تدريبها كمشروع مربح وآمن. لكن، مع تكرار حوادث الغرق المؤسفة، وآخرها وفاة اللاعب الناشئ يوسف محمد عبد الملك في بطولة الجمهورية في مصر، نجد أنفسنا أمام تساؤلات هامة حول معايير السلامة، غياب الرقابة، والنظام الذي يبدو أنه يضع الجانب التجاري فوق الأرواح البشرية.

حقيقة “الإهمال والتقصير”

كشفت تحقيقات النيابة العامة في الواقعة الأخيرة عن “إهمال وتقصير” واضح من جانب المسؤولين ومنظمي البطولة وطاقم الإنقاذ، حيث إن هذه النتائج الصادمة ليست مجرد حادث عرضي، بل هي جرس إنذار يكشف عن ثغرات عميقة في بنية هذا “البيزنس”، إذ إن الوفيات المفاجئة أثناء المنافسات الرياضية، خاصة بين الناشئين، تشير إلى أن الاستعدادات الطبية وإجراءات الطوارئ قد تكون غائبة أو غير كافية بالمرة.

حلقة مفقودة

أحد أبرز الانتقادات الموجهة للمنظومة هو التغاضي عن الكشف الطبي الشامل والدقيق للرياضيين قبل السماح لهم بالمشاركة في بطولات تتطلب جهداً بدنياً عالياً، فهل يتم الاكتفاء بفحص روتيني شكلي؟ التوصيات الطبية تشدد على أهمية المراجعات الطبية الدقيقة للرياضيين لتجنب الأزمات القلبية المفاجئة التي قد تحدث أثناء النشاط البدني المكثف.

التركيز على المدربين وحدهم قد يكون مضللاً، فالمشكلة تمتد لتشمل الحكام، إدارات الأندية، الاتحادات الرياضية، وصولاً إلى وزارة الشباب والرياضة نفسها التي أحالت الواقعة للنيابة للتحقيق في مدى الالتزام بالكود الطبي المعتمد، فعندما تعترف والدة اللاعب بأن ابنها “راح بسبب إهمال منظومة كاملة”، فهذا يضع عبئاً أخلاقياً وقانونياً كبيراً على كل من يشارك في إدارة هذا القطاع.

ثقافة “المجازفة”

في كثير من الأحيان، يتم التعامل مع السباحة كرياضة آمنة بطبيعتها، مما يولد شعوراً زائفاً بالأمان لدى المدربين والمنظمين. هذا الشعور يؤدي إلى التهاون في تطبيق البروتوكولات الصارمة، مثل نسبة المدرب إلى عدد السباحين في المسبح، أو التغاضي عن وجود منقذ مؤهل في كل الأوقات. عندما تكون الأولوية لضغط الجدول الزمني أو تقليل التكاليف التشغيلية لزيادة هامش الربح، تصبح حياة المتدربين أو اللاعبين هي الثمن الباهظ الذي قد يُدفع نتيجة هذه المجازفات غير المحسوبة.

لا يكفي الحصول على شهادة إنقاذ “مرة واحدة في العمر”، حيث يجب أن تكون برامج تدريب المدربين والمنقذين دورية وإلزامية، مع التركيز على سيناريوهات الطوارئ الواقعية وكيفية استخدام المعدات الحديثة كجهاز إزالة الرجفان القلبي الآلي (AED)، إذ إن القدرة على التصرف السريع والفعال في الدقائق الذهبية الأولى بعد وقوع أي حادث هي الفارق الحقيقي بين الحياة والموت. كما يجب أيضاً أن تخضع الأندية والاتحادات لتدريبات محاكاة منتظمة لضمان جاهزية أطقم العمل لديها للتعامل مع أسوأ الاحتمالات، بدلاً من الاكتفاء بالتدريب النظري.

دور الأهل

يجب ألا يكون الأهل مجرد “عملاء يدفعون المال” مقابل حصص تدريب أبنائهم، حيث يقع على عاتق أولياء الأمور دور محوري في المساءلة والتدقيق، فمن حق كل ولي أمر السؤال عن مؤهلات المدرب والمنقذ، ورؤية خطة الطوارئ المتبعة في النادي، والتأكد من وجود تأمين طبي يغطي الحوادث، إذ إن الضغط الإيجابي من قاعدة العملاء هو القوة الدافعة التي ستجبر إدارات الأندية ومؤسسات التدريب على رفع معايير السلامة لديها، لأنها ستدرك أن الجمهور أصبح أكثر وعياً ولن يقبل بأي تهاون يخص سلامة أبنائهم.

واقعة اللاعب يوسف محمد

كشفت تحقيقات النيابة العامة، في واقعة وفاة لاعب السباحة يوسف محمد ببطولة الجمهورية، أن المجني عليه وصل إلى نهاية السباق قبل أن ينهار ويغوص إلى قاع المسبح دون ملاحظة المسئولين، ولم يتم اكتشاف حالته إلا بعد مرور 3 دقائق و34 ثانية أثناء انطلاق السباق التالي.

اللاعب يوسف محمد

 

أثبتت التحقيقات، عدم التزام الاتحاد المصري للسباحة ونادي الزهور بضوابط قانون الرياضة، خصوصًا ما يتعلق بالكود الطبي للاعبين الصادر بقرار وزير الشباب والرياضة رقم 1642 لسنة 2024، حيث خلا الملف الطبي للطفل من التقارير والإجراءات الإلزامية للاشتراك في البطولة.

وأمرت النيابة العامة، بحبس الحكم العام وثلاثة من أفراد طاقم الإنقاذ احتياطياً لثبوت مسؤوليتهم المباشرة عن وفاة اللاعب ببطولة الجمهورية نتيجة الإهمال، كما قررت استعجال تقرير الطب الشرعي وسماع معدّيه، وكل من تكشف عنه التحقيقات.

وقررت النيابة العامة، استدعاء رئيس الاتحاد المصري للسباحة والمختصين به، ومسؤولي نادي الزهور، لاستكمال التحقيقات في واقعة وفاة الاعب يوسف محمد ببطولة الجمهورية للسباحة نتيجة الإهمال.

وباشرت النيابة العامة تحقيقاتها في واقعة وفاة اللاعب يوسف محمد أحمد عبد الملك، البالغ من العمر 12 عامًا، والذي وافته المنية خلال مشاركته في بطولة الجمهورية للسباحة المقامة بمجمع حمامات السباحة باستاد القاهرة الدولي، وذلك عقب تلقيها البلاغ مساء الثاني من ديسمبر الجاري.

وأجرت النيابة العامة معاينة لمحل الواقعة، حيث تبين عدم وجود كاميرات مراقبة فعّالة داخل المسبح، لتنتقل بعدها إلى مقر الاتحاد المصري للسباحة وتضبط الملف الطبي للمتوفى، إضافة إلى مقطع مرئي يوثق كامل تفاصيل الواقعة، كما تحفظت على أجهزة تسجيل كاميرات المراقبة، وجميع المستندات المنظمة لإجراءات البطولة وإشرافها الطبي.

وانتقلت النيابة إلى مستشفى دار الفؤاد لإجراء مناظرة لجثمان الطفل، وندبت مصلحة الطب الشرعي لتحديد سبب الوفاة، وبيان مدى وجود أمراض قد تمنعه من المشاركة، وكذلك التحقق من سلامة الإجراءات الطبية المتخذة عقب انتشاله من المسبح.

واستمعت النيابة العامة إلى شهادات والد المجني عليه وعدد من الشهود، الذين أكدوا وجود إهمال من منظمي البطولة، المنقذين، والحكام، كما استمعت لأقوال أكثر من عشرين شاهداً من الجهات الرياضية والطبية، أجمعوا على وجود تقصير واضح من الحكم العام وطاقم الإنقاذ.

مطالبة بتغيير جذري

إن بيزنس تدريب السباحة يواجه اليوم تحدياً مصيرياً لاستعادة الثقة، فلا يمكن أن تستمر الأنشطة الرياضية دون بيئة آمنة تضمن الالتزام الكامل بمعايير السلامة، حيث يجب أن يكون هناك رقابة صارمة وتفعيل لدور الجهات الرقابية لضمان التزام كل نادٍ ومركز تدريب بالمعايير الدولية للسلامة والإنقاذ، بالإضافة إلى ضرورة توافر تجهيزات إلزامية كفرض توفر أجهزة الإنعاش القلبي الفوري (AED) وأطقم الطوارئ المدربة في كل مسبح وبطولة، وذلك بجانب محاسبة كل مقصر في حالة حدوث إهمال، كما بدأت النيابة العامة مؤخراً بحبس بعض المسؤولين.

“بيزنس تدريب السباحة” يجب أن يكون مرادفاً للحياة والأمان، لا الموت والإهمال، فالحفاظ على أرواح الرياضيين، خاصة الناشئين منهم، هو الأولوية القصوى التي يجب أن تطغى على أي مكاسب تجارية أو تنظيمية، حيث إن المسؤولية مشتركة، والوقت قد حان لتصحيح المسار قبل أن نفقد المزيد من الأرواح الواعدة في قاع المسابح.

📎 رابط مختصر للمقال: https://www.baladnews.com/?p=8586

موضوعات ذات صلة

لماذا تراجع الدور الرقابي لمجلس النواب؟

غادة سعد

الحبيب السالمي يروي أحوال الاغتراب في “أيتها القبرة”

المحرر

كارت الفلاح يحارب أزمة الأسمدة

المحرر

صباح يشرق كالأمس.. جديد ناصر كمال بخيت

المحرر

التعليم العالي يوسع “الحرم الجامعي الجديد”

سلوي عمار

مساكن الأمريكان بسيدي بشر: تاريخ مهدد بمشاكل الصرف والقمامة

أيمن مصطفى