البلد خانة

شهود شهر كيهك… الخفيون خلف حكايات التسبيح

خلف ألحان كيهك التي تملأ الكنائس في تسابيح شهر كيهك، تقف أسماء قبطية عظيمة لم تأخذ حقها من الضوء، لكنها وضعت بدموعها وأقلامها وترانيمها الأساس الروحي والطقسي لما نعيشه في شهر التسبيح، القمص إرميا الناسخ، أحد أعمدة المخطوطات القبطية في القرن الخامس عشر، والقس سركيس، صاحب بصمة مميّزة في نصوص كيهكية ما زالت تتردد حتى الآن؛ شخصيتان تحملان في سيرتهما معنى أن التسبيح ليس مجرد لحن، بل حياة كاملة تقدَّم لله.

كيهك… شهر عقيدة قبل أن يكون شهر ألحان
تعود جذور التسبحة الكيهكية إلى ما بعد مجمع أفسس سنة 431 م، برئاسة البابا كيرلس الأول “عمود الدين”، حين ثبتت الكنيسة القبطية عقيدة التجسد الإلهي من العذراء مريم، وردّت بحسم على بدعة نسطور الذي أنكر لقب “والدة الإله”،
منذ ذلك الحين، لم تكن التسبحة الكيهكية مجرد تسابيح عاطفية، بل نصوص لاهوتية مقصودة، تؤكد أن المسيح هو الله المتجسد، وأن العذراء مريم هي “السماء الثانية” التي حلّ فيها كلمة الله، كل قطعة في الهوسات والثيؤطوكيات تمتلئ بإشارات كتابية ورموز آبائية، لتربط الشعب البسيط بعقيدة الكنيسة عبر التسبيح المتواصل طوال ليالي كيهك.

الكاهن الناسخ… عَين فقدت النور وقلب أنار التراث
القمص إرميا الناسخ هو كاهن من عظماء الأقباط الذين خدموا الكنيسة في القرن الخامس عشر، وكان كاهنًا على كنيسة القديسين أباكير ويوحنا ببابلون مصر (مصر القديمة الآن)، اشتهر بنسخ المخطوطات القبطية بدقة وأمانة، حتى صارت كثير من أعماله اليوم محفوظة في مكتبة البطريركية بالقاهرة، والمكتبة الوطنية الفرنسية بباريس، ومكتبة الفاتيكان؛ ما يعني أن مجهوده صار جزءًا من ذاكرة الكنيسة عالميًا، لا محليًا فقط.

تعرض القمص إرميا لتجربة صحية قاسية، إذ فقد بصره لسبع سنوات كاملة، ومع ذلك لم تنقطع خدمته أو محبته للكنيسة، تذكر المصادر أن بصره عاد بمعجزة بشفاعة السيدة العذراء مريم، فعاد بعدها لنسخ المخطوطات ونشاطه في ترتيب الطقوس الكنسية.
له دور بارز في وضع وترتيب بعض الصلوات والطقوس، منها:
– طقس تدشين الكنائس الجديدة.
– موعظة القربان التي تُقال في باكر خميس العهد.

هذه البصمة الطقسية توضح أن القمص إرميا لم يكن مجرد “ناسخ أوراق”، بل لاهوتيًا طقسيًا واعيًا، ساهم في صياغة لغة الصلاة التي تعيشها الكنيسة حتى يومنا هذا

القس سركيس… من القدس إلى دير الأنبا أنطونيوس
القس سركيس بدأ حياته معلّمًا، ثم رُسم قسًا في 10 فبراير 1484 على الكنيسة القبطية في القدس على يد البابا يؤانس الثالث عشر. خدم في زمن كانت فيه الكنيسة القبطية تمتد بروح واحدة من مصر إلى الأراضي المقدسة، وكانت القدس مركزًا روحيًا مهمًا للأقباط.

حوالي سنة 1464 م، قام القس سركيس بزيارة لدير القديس الأنبا أنطونيوس في الصحراء الشرقية، وسُجل خبر زيارته على الحائط البحري بكنيسة الأنبا أنطونيوس الأثرية بالدير، حيث نقرأ:
“اذكر يا رب عبدك سركيس وخلصه من الضربات”
هذا النقش البسيط يحوّل اسمه من مجرد سطر في التاريخ إلى شخص حقيقي حضر وصلّى ورسم أثرًا ماديًا وروحيًا في مكان من أقدس مواضع الرهبنة في العالم.

بصمته في تسابيح كيهك وثيؤطوكيات السبت
يظهر اسم القس سركيس في آخر ربع من أرباع إبصالية “أريبصالين” التي تقال للثلاثة فتية القديسين، وهي إبصالية كانت تُرتل في الأصل على الهوس الثالث في شهر كيهك فقط، ثم امتد استخدامها على مدار السنة كلها، ما يعني أن بصمته صارت جزءًا من النسيج اليومي للتسبيح الكنسي.

كما ينسب إليه تأليف “التسع قطع الرومي” التي تُقال في ثيؤطوكية السبت في شهر كيهك، وهي مقاطع لاهوتية وروحية عميقة، تعكس تأملًا في التجسد وأم النور والرموز الكتابية المرتبطة بها، هذه القطع صارت مكوّنًا أساسيًا في تسبيحة السبت، أعمق أيام كيهك من حيث التركيز على العذراء والكنيسة.

تنيح القس سركيس في يوم عيد القيامة، 22 أبريل 1492 م، في دلالة روحية عميقة تراها الكنيسة علامة كرامة، إذ يربط رحيله بيوم القيامة والفرح النهائي.

لماذا نحتاج أن نعرف هؤلاء اليوم؟

القمص إرميا الناسخ والقس سركيس مثالان لشخصيات “مخفية” في التاريخ، لكنها ظاهرة بقوة في نصوص كيهك التي نصليها حتى اليوم.
معرفة سيرتهم:
– تربطنا بجذور التسبيح الذي نمارسه الآن.
– تكشف أن وراء كل لحن ومقطع كيهكي آباء تعبوا ونسخوا وصاغوا وواجهوا أمراضًا وتجارب.
– تؤكد أن كيهك ليس مجرد شهر ألحان جميلة، بل تاريخ إيمان ممتد ساهم فيه كتبة ونسّاخ وكهنة ومعلمون، وضعوا حياتهم في خدمة الكنيسة.

📎 رابط مختصر للمقال: https://www.baladnews.com/?p=9283

موضوعات ذات صلة

شارع محمد نجيب بالإسكندرية: نمو العمران من قلب العشوائيات

أيمن مصطفى

افتتاح الدورة الكشفية والإرشادية بجامعة أسيوط 2025

أحمد الفاروقى

إسكندرية بلا ضجيج: حلم يدمّره المتهورون والدراجات البخارية

أيمن مصطفى

انطلاق التشغيل التجريبي للأتوبيس الترددي

المحرر

تفاصيل لقاء البابا تواضروس مع الأنبا بضابا

حازم رفعت

أندريه زكي: الشراكة الإنجيلية ضرورة للكنيسة والمُجتمع

حازم رفعت