يُعدّ نجيب محفوظ “أيقونة” أدبية عربية برزت على مسرح القرن العشرين، تاركا إرثا روائيا غنيا يتناول مختلف جوانب الحياة المصرية، بما في ذلك الثورة.
عاصر محفوظ أحداثا كبرى في تاريخ الشعب المصري، وترك بصماته الإبداعية واضحة على رواياته التي تجسدت فيها رؤيته لتلك الأحداث المهمة وتأثيرها على المجتمع، حيث عكست تطلعات الشعب المصري نحو الاستقلال، والحرية.
بهذه الكلمات استهل الدكتور عمر محفوظ أستاذ البلاغة والنقد الأدبي والأدب المقارن بكلية التربية بجامعة السادات حديثه مع “صوت البلد” عن “أديب نوبل” العالمي نجيب محفوظ في الذكرى المئوية لميلاده.
وقال: إن محفوظ ترك لنا إرثًا أدبيًا غنيًا يُجسّد رحلة الإنسان العربي في سعيه نحو الحرية والعدالة الاجتماعية والبناء والتقدم. وفي هذا الحوار نتعرف على المزيد من آرائه في إبداعات الأديب العلمي نجيب محفوظ، بعد مشاركته في احتفالات وزارة الثقافة بمئوية الأديب العالمي.
عايشت إبداعات أديب نوبل الكبير نجيب محفوظ الأحداث الكبرى في حياة الشعب المصري، وعبرت عن آماله وطموحاته.. فكيف ترى أثر ذلك في أعماله؟
الحقيقة أن أعمال الأديب الكبير نجيب محفوظ جست الكثير من الأحداث الكبرى التي صنعها الشعب المصري، وكان لها تأثير كبير في حياته؛ فقد جسدت “الثلاثية” (بين القصرين، قصر الشوق، السكرية) ثورة 1919م، حيث ربطها بمسار عائلة الأباجية على مدار ثلاثة أجيال. وعكست الرواية تطلعات الشعب المصري نحو الاستقلال والحرية، وتأثيرات الثورة على مختلف الطبقات الاجتماعية.
كما تفاعل محفوظ مع ثورة 23 يوليو في رواياته اللاحقة، مثل: “السمان والخريف” و”اللص والكلاب” و”ثرثرة فوق النيل” و”الكرنك”.
الاستقلال والحرية والعدالة
أكدتم في بعض أبحاثكم تنوع مشاعر الأديب الكبير تجاه العديد من تلك الأحداث المهمة بين الأمل في التغيير، وغير ذلك من المخاوف والمشاعر السلبية.. أليس ذلك؟
اعتبر نجيب محفوظ الثورة فرصة للتغيير وتحقيق العدالة الاجتماعية. وتجلى ذلك في رواياته المبكرة، مثل “الثلاثية” حيث عبر عن تطلعات الشعب المصري نحو الاستقلال والحرية. وعلى جانب آخر عكس في بعض رواياته، مثل “السمان والخريف”، خيبة أمله، حيث لم تتحقق كل الآمال التي تطلع إليها الكثيرون.
وتناول نجيب محفوظ الصراع بين الخير والشر في ثنايا رواياته، مثل “اللص والكلاب”، حيث جسد تناقضات المجتمع وتأثير الثورة على سلوكيات الأفراد.
ولجأ نجيب محفوظ إلى أسلوب أكثر رمزية في رواياته، مثل “الكرنك” و”أولاد حارتنا” للتعبير عن أفكاره حول التغيرات الكبرى في المجتمع. وتنوعت شخصيات نجيب محفوظ في رواياته الثورية، من الثوار إلى المتآمرين إلى ضحايا الثورة، مما أضفى ثراءً على أعماله الأدبية.
صورة واقعية لحياة المصريين
ترك نجيب محفوظ إرثًا أدبيًا غنيًا يُجسّد رحلة الإنسان المصري في سعيه نحو الحرية والعدالة الاجتماعية.. كيف عبرت أعماله عن ذلك؟
تُعدّ رواية “بين القصرين” من أهم الأعمال الأدبية التي تناولت ثورة 1919. وتُقدم صورة واقعية لها، وتُحلل تأثيرها على مختلف فئات المجتمع. تدور أحداث الرواية حول عائلة “الأباجية” في حي الحسين بالقاهرة.
يُجسّد الأب “سي السيد” شخصية الرجل المستبد المُتمسك بالتقاليد، بينما يتفاعل ابنه “فهمي” مع الثورة وينخرط في الأنشطة السياسية. وتُجسّد الأم “أمينة” شخصية المرأة الصابرة المُتسامحة التي تُعاني من قسوة زوجها، وتُدافع عن حقوق بناتها. ويُمثل الأبناء “ياسين” و”فهمي” و”كمال” و”خديجة” و”عائشة”، أجيالا مختلفة من المصريين، وتُجسّد تجاربهم مسار الثورة وتأثيرها على المجتمع.
ويُمثل الحريق الذي يلتهم منزل العائلة في نهاية الرواية، رمزًا لانهيار النظام القديم، واندلاع شرارة التغيير. وهكذا تقدم الرواية صورة واقعية لحياة المصريين خلال تلك الفترة، وتُسلط الضوء على التناقضات الاجتماعية والسياسية التي سادت حينئذ.
وتمثل رواية “قصر الشوق” رغبة الشعب المصري في التحرر من الاستعمار البريطاني ونيل الاستقلال. وتشكل خلفية الأحداث وتؤثر بشكلٍ كبير على حياة عائلة السيد أحمد عبد الجواد، بطل الرواية.
يتأثر كمال، الابن الأصغر، بأحداث ثورة 1919 بشكلٍ كبير. ينمو شعوره الوطني ويصبح أكثر وعيا بالقضايا الاجتماعية والسياسية. يرفض دخول كلية الحقوق، كما كان يرغب والده، ويفضل كلية المعلمين لشغفه بالآداب. وينتقل ياسين للعيش في “قصر الشوق” المنزل القديم الذي ورثه عن أمه. ويمثل هذا الانتقال رمزا لتغير الأجيال وتطور المجتمع.
وتتناول رواية “السكرية” مرحلة ما بعد ثورة 1919 في مصر، وتبرز التغييرات الاجتماعية والسياسية، وتُسلّط الضوء على الصراعات الفكرية والأيديولوجية التي نشأت نتيجة العديد من التغييرات. وتظهر تراجع الحركة الوطنية بسبب الانقسامات الداخلية، ويُجسّد هذا التراجع شعورًا بالإحباط لدى بعض الشخصيات، مثل كمال عبد الجواد، الذي يرى أن الثورة لم تحقق أهدافها كاملة. كما يُظهر الصراع بين الأجيال بوضوح في الرواية.
تغييرات اجتماعية ونفسية عميقة
إذا انتقلنا إلى روايات محفوظ التي تناولت ثورة 23 يوليو.. ما أبرزها؟ وكيف تناولتها؟
تُعدّ رواية “السمان والخريف” من أهمّ الأعمال الأدبية التي تناولت ثورة 23 يوليو. تُظهر الرواية كيف أثرت الثورة على حياة الأفراد، وكيف أدت إلى تغييرات اجتماعية ونفسية عميقة. تُمثل الثورة صراعًا بين جيلين جيل قديم يتمسك بالقيم والتقاليد القديمة، وجيل جديد يسعى إلى التغيير والتحديث.
تبرز فقدان عيسى الدباغ، بطل الرواية، وظيفته الحكومية بعد الثورة بسبب انتمائه لحزب الوفد، الذي عارض الثورة. ويُمثل ذلك فقدان عيسى أمانه واستقراره، ويُجبره على إعادة تقييم حياته، والبحث عن الهوية في عالمٍ جديدٍ مُتغير.
“ثرثرة” تثير جدل النقاد
عمد نجيب محفوظ إلى عدم ذكر الثورة صراحة في روايات أخرى أبرزها: ” اللص والكلاب” و”ثرثرة فوق النيل”.. كيف ترى هذا التوجه من الكاتب؟
تختلف رواية “اللص والكلاب” عن رواياته الأخرى التي تناولت الثورة المصرية في أنها لا تُصوّر الثورة كحدثٍ إيجابيٍّ أو سلبيٍّ بشكلٍ مُباشر؛ فقد ركزت بشكلٍ أساسي على الصراعات الداخلية التي يعيشها البطل، سعيد مهران، مع نفسه ومع المجتمع .
ويُمكن النظر إلى سعيد مهران كرمزٍ للثائر ضد الفساد والظلم في المجتمع. ويُمثل تمرده وسعيه للانتقام من الظالمين نوعًا من الثورة الفردية.
وتُعدّ رواية “ثرثرة فوق النيل” من أكثر رواياته إثارةً للجدل، وذلك بسبب تناولها موضوعاتٍ حساسةٍ في ذلك الوقت، مثل: الهزيمة في حرب 1967، والفساد السياسي، والاضطرابات الاجتماعية.
تُقدم رواية “ثرثرة فوق النيل” صورة المجتمع المصري بعد هزيمة 1967. تُظهر الرواية كيف أدت هذه الهزيمة إلى شعورٍ عامٍّ بالإحباط واليأس، وكيف فقد الكثير من الناس إيمانهم بالمستقبل
وتُركز الرواية بشكلٍ أساسي على الأزمات الشخصية التي يعيشها أبطالها، مثل الإحباط واليأس والبحث عن المعنى في الحياة. وتُمثل العوامة التي يجتمع عليها أبطال الرواية رمزًا للمجتمع المصري في ذلك الوقت.
وتُظهر الرواية كيف يعاني أفراد هذا المجتمع من مشاعر الإحباط واليأس، وكيف يبحثون عن حلولٍ لمشاكلهم دون جدوى. .
أثارت رواية “ثرثرة فوق النيل” الكثير من الجدل؛ فاتهم بعض النقاد نجيب محفوظ بأنه يُقدم صورةً سلبيةً للمجتمع المصري، بينما أشاد آخرون بجرأته في تناول موضوعاتٍ حساسةٍ في ذلك الوقت.