ثقافة وأدبسليدر

لوران موفينيه يخطف “غونكور” برواية تفتح باب الذكريات

ليست رواية “البيت الفارغ” مجرد سيرة ذاتية مقنعة، بل حفريات سردية في عمق الإرث الإنساني، بحيث ينجح موفينييه في استنطاق الصمت الذي يخيم على البيت الكبير ، ليحوله إلى مسرح حي تتردد في أرجائه أصداء الذاكرة العائلية والوطنية معاً.

ذلك البيت الفارغ، بما يضمه من بيانو صامت، ومجلدات متعفنة، ومراسلات قديمة، ووسام فخر الشرف، لا يبدو مجرد مكان للسرد، بل يتحول إلى وثيقة حية تختزن تاريخ أربعة أجيال من أسرة فلاحية الأصل، عبر قرن تضج أزمنته بالحروب والتحولات الاجتماعية العميقة بين عامي 1860 و1960.

تدور الأحداث في قرية صغيرة في تورين، ينطلق موفينييه ليعيد تركيب الزمن الضائع عبر أرشيف صور بهتت حوافها، أشياء عتيقة مكتشفة، رسائل حميمة، آثار منسية، يرفع الكاتب عنها الغبار، كي يكشف عن ظلام حالك لعائلة تبدو عادية ظاهرياً. يقول: “حاولت إعادتهم للنور كي أفهم ما كان يمكن أن يكون تاريخهم، وظله المنعكس على تاريخنا. لا أقدم سوى فرضيات تأملات، غير أنني أعتقد أن العالم الذي أكتبه، وإن اكتشفته جزئياً، وأنا أحلم به، لست أختلقه اختلاقاً كاملاً، إنني أعيد بناءه قطعة قطعة، كآلة قديمة نكتشف أن آليتها كانت تعمل يوماً، وأن كل ما تحتاج إليه لتدب فيها الحياة هو أن يعاد تشغيلها، لا أعرف بالضبط أي الحقائق مختلقة لسد الثغرات، لكن الأحجية شبه كاملة، على الأقل بالنسبة إلي”.

يبدأ كل شيء بباب صدئ، موصد، يعاد فتحه عام 1976، والد الكاتب يعيد إحياء المنزل الذي ورثه عن أمه، ليكشف عن بيانو متآكل، خزانة رخامها متشقق، وصور تم قص وجوهها بالمقص. هذه الأشياء ليست ديكوراً، إنها بقايا أرواح محيت آثارها، كن نساء حملن عبء التاريخ على أكتافهن: ماري – إرنستين، عازفة البيانو العبقرية التي خنقتها أحلامها الموسيقية في قفص بورجوازي فلاحي، مارغريت، الجدة الغائبة عن الصور، ضحية أبدية لـ”القذارة الإنسانية المكونة من الخبث والغباء”، وصولًا إلى والد الكاتب الذي انتحر في الـ16 من عمره، تاركاً وراءه لغزاً لا يفك إلا بالكتابة.

علامات دالة

من بين العلامات الدالة في رواية “البيت الفارغ”، يستعيد لوران موفينييه من بيت العائلة المهجور بقايا أشياء تبدو عادية، بيانو صامت، مراسلات قديمة، الطبعة الكاملة من آل روغون – ماكار، لكنها تتحول تحت قلمه إلى شواهد حية، أدوات تنقيب سردي يستخرج من خلالها ذاكرة أربعة أجيال. ومثل عالم آثار يعيد تركيب هيكل عظمي انطلاقاً من عظمة ضئيلة، ثم كفنان يعيد لهذا الهيكل نبض الحياة، يقوم الكاتب بإعادة بناء مصائر أسلافه، في مشهد روائي يتقاطع فيه التاريخ الشخصي مع التاريخ الجمعي.

وفي خلفية هذا المشروع السردي، ينهض السياق الاجتماعي والسياسي لفرنسا تحت حكم الجمهورية الثالثة، إذ يحكم النظام الأبوي حياة الريف، ويفرض على النساء حدود أدوارهن. فيرمين بروست وزوجته جان-ماري يسيران أملاك العائلة، وحين يبتعد الأبناء الذكور، تعين الابنة ماري-إرنستين وريثة “طبيعية”، غير أن ميولها الموسيقية وحبها الخفي لمعلمها فلورنتان كابانيل يصطدمان بإرادة الأب الذي يزوجها قسراً من جول شيشيري، رئيس عمال النجارة. هذا الزواج، الذي تعيشه العروس كاغتصاب موثق في الذاكرة العائلية، سيشكل الصدمة المؤسسة التي يتوالد منها الألم عبر الأجيال.

يتابع موفينييه خيوط الحكاية مع انكسار الحرب الكبرى، التي تبتلع جول، وتعيده فقط في صورة أسطورة وطنية. ماري-إرنستين الأرملة، وأمها جان-ماري التي تتولى قيادة الأملاك، تجسدان نموذجين متناقضين للأنوثة في مجتمع يحاصر النساء بين الواجب والفضيحة. في هذا البيت الموصوم بالبطولة والفقد، تكبر مارغريت، الطفلة التي سيكتب عليها أن تحمل إرث الانكسار، بين جدة متسلطة وأم غارقة في صمت البيانو. تتكرر دوامة القمع والعزلة: مارغريت تستغل وتشوه سمعتها، ثم تتزوج على عجل لتستر الحمل، قبل أن تفقد زوجها أندريه في أهوال الحرب الثانية. وحين تحاول، من يأسها، التواصل مع المحتلين لمعرفة مصيره، تدان لاحقاً وتحلق رأسها في مشهد رمزي يعيد تعريف معنى العار والنجاة.

الرواية تشبه في تركيبها عملاً توثيقياً يلاحق أثر الصمت العائلي، وصولاً إلى الفرضية المركزية: أن اختفاء الجدة مارغريت وانتحار الأب ليسا حدثين منفصلين، بل نتيجة لتاريخ طويل من الخضوع والعنف الرمزي الذي تناسل داخل العائلة.

الأسرار والزمن

يجمع أسلوب موفينييه، بين دقة المؤرخ وشفافية الروائي. لغته مقتصدة، متقشفة في الحوار، لكنها متسعة في الإيحاء. الجمل تنبض بإيقاع بطيء، داخلي، يذكر ببعض من نفس بروست، لا من حيث الزخرف، بل في عمق التحليل النفسي والتقاط لحظات الوعي والذاكرة. الشخصيات النسائية الثلاث: جان-ماري، ماري-إرنستين، ومارغريت، تشكلن محوراً ثلاثياً يقرأ الكاتب من خلاله مصائر النساء في مجتمع أبوي، ويتقصى في الوقت نفسه آليات الألم والسكوت والوراثة العاطفية.

لا يروي موفينييه الدراما العائلية فقط، بل يتوغل بها، كاشفاً عن أن الصمت هو البطل الحقيقي، ذلك البخار السام الذي تسلل إلى الجدران جيلاً بعد جيل، محملاً بالعار والآلام المكبوتة. الكاتب لا يدعي الحقيقة المطلقة، يبني نسخة محتملة من الواقع المتلاشي، يملأ الثغرات بخيال محتشد وحدس نفسي عميق، فيحول الفراغ إلى تاريخ، والصمت إلى كلام. لنقرأ: “تتسرب الأسرار فينا كما لو كانت قد قيلت منذ الأزل، على ألسنة أولئك الذين جعلوا منها أسراراً في الأصل. وليس الأمر أنهم يخونون أنفسهم فيفشون، من غير قصد، ما أرادوا كتمانه، لا، بل لأنهم ليسوا وحدهم، لهم أصدقاء، وجيران، وأقارب، وأناس يشبهون الظلال، أوكلوا إليهم مهمة البوح، عرضاً وبلا نية ظاهرة، بما هم يتقنون إخفاءه. وهكذا، بعد قرن كامل، ما تزال الإشاعات تدور وتتماوج في طيات الستائر، خلف نوافذ الجيران الذين راكموا أسرار عائلتك، وأتقنوا نقلها إلى الأجيال التي كان يراد لها ألا تعرفها، كما ينتقل غبار الطلع في الهواء، ناشراً في البعد أثره عن موطنه الأول”.

تراجيديا النساء

في هذه الرواية، لا مكان للرجال إلا كأشباح في الخلفية، النساء هن المركز، هن المقاتلات، المتمردات، اللاتي يتحدين المعايير بأفعال فاضحة في عصرها، بينما تبدو عادية في عصرنا. يقول: “عبثاً تصعد مارغريت إلى غرفتها، وتصفق الباب خلفها، وتلقي بجسدها على السرير، وتغرس وجهها في الوسادة. عبثاً تطلق لذلك المزيج من الغضب والحزن العنان، فهي لا تدري لماذا تبكي، ولا من أجل من. أتراها تبكي اشمئزازاً؟ حزناً على أمها؟ أم لأمر آخر؟ ربما من أجل جميع الجنود، الفرنسيين منهم، بل وحتى الألمان، أولئك المساكين جميعاً، أو ربما ضد عبث الحرب نفسها؟ لا فكرة واضحة. في رأسها ضباب من الصور والأفكار تتنازعها أفكار نقيضة، أو لعلها ليست حتى أفكاراً، بل صور وكلمات وخدوش وقشور أفكار، تختلط وترقص أو تتحطم كالصخور، من يدري؟ من يدري ما الذي يدور في رأس فتاة في عمرها، حين تتردد على مسامعها كلمات الكبار وأفكارهم المعقدة إلى أن تتمزق بعضها ببعض، كقصاصات ورق، وتختلط في فوضى من النثار الملون”.

استعارة فرنسية للحياة

ومن خلال هذا البيت، بما يختزنه من أشياء وشخصيات وذكريات متآكلة، يعود قرن كامل للحياة: قرن فرنسا الريفية، العاملة، المجتهدة. هناك، في تفاصيل المكان، تستعاد روح البلاد كما كانت في زمنها الأكثر صدقاً واتساعاً. نقرأ في إحدى صفحات الرواية فقرة تكاد تختصر مزاج فرنسا السياسي والاجتماعي في العشرينيات:

“من أراد أن يعرف ميول بلدية ما، أتميل إلى اليسار أم إلى اليمين، فما عليه إلا أن يتبع قاعدة بسيطة: أن يتأمل موضع النصب التذكاري لشهداء الحرب. فإن كان النصب في قلب الساحة العامة، قريباً من دار البلدية، فالغالب أن الذين شيدوه من أهل اليسار، وأن تمثالهم قد خلا من الرموز الدينية، مكتفياً بتمجيد الشجاعة والسلام ومجد العمال ذوي النيات الطيبة.أما إذا أقيم النصب في المقبرة، فذلك دليل على مجلس محافظ، متجذر في اليمين، أراد أن يربط الذاكرة الوطنية بالمسيحية، وأن يؤكد قيم العظمة والروح الأبوية”.

فرنسا هذه، اختفت اليوم، لكنها تظهر مع أسلاف الكاتب، الذي يعيد النفس لهؤلاء الراحلين، شهود عصر مضى، وبقوة اللغة، يعترف بوجودهم، وآلامهم، وكرامتهم. عبر هذا الكشف، يعاد تركيب عالم مدفون وذاكرة طردت طويلاً للظل، بينما يأتي السرد ليكسر اللعنة العائلية المنسوجة حول مصائب القرن، والإذلال المكبوت، والانتقالات الخفية، بتحويل الصمت إلى كلام، والفراغ إلى تاريخ. يقول: “بيت فارغ، تتعفن في عليته مجلدات كتب لم تقرأ، لكنها كانت في يوم ما تزين مكتبة غرفة الضيوف المطلية بلون التفاح الأخضر.

بيت فارغ، يتوسط صالونه الكبير ماموث عجوز، بقايا ما كان ذات يوم بيانو أسود فخم. بيت فارغ، لكنه مكتظ بالذكريات، بالروائح والآثار، بالأرواح التي مرت فيه، وبذكريات خمسة أجيال من عائلة ريفية الجذور”.

فضاء مسكون

موفينييه، عبر هذا المعمار السردي المتين، يحول البيت المهجور إلى مختبر روائي للذاكرة، ويعيد من خلاله التفكير في سؤال الأدب ذاته: هل يمكن للكلمة أن تعيد الحياة لما محاه الصمت؟

الرواية تبدو كما لو أنها مسكونة بالأرواح، تخاطب قارئها بروية، تطلب منه الاستسلام، والتباطؤ، والتنفس بهدوء. وفي هذا الاستسلام، يكشف موفينييه عن عبقريته: كيف بإمكانه تحويل المحو إلى حضور، واللعنة العائلية إلى عمل فني ينصف الجميع بلطف وواقعية، مؤكداً أن اختيار أسلوب السرد قادر على تغيير كل شيء، حتى عندما تكون المواضيع كلاسيكية إلى حد الوجع، وهو ما أقرت به جائزة غونكور بتتويجها لهذا العمل بقولها: “هذه الرواية، قمة لفن السرد الذي يصقله موفينييه منذ ربع قرن”.

الجدير بالذكر، أن لوران موفينيه كاتب فرنسي معاصر ولد عام 1967 في تور. عرف بأسلوبه الأدبي المتأمل والعميق الذي يركز على تفاصيل الحياة اليومية والهواجس الداخلية لشخصياته، ويتميز بحس إنساني رفيع وقدرة على التقاط الصمت والخيبات، مع انشغاله بذاكرة العائلات، وتاريخ الحروب، والروابط الخفية بين العنف والحب والصمت. بدأ مسيرته الأدبية في أواخر التسعينيات، ليصبح أحد أبرز أصوات الأدب الفرنسي الجديد. نشرت أعماله في دار “مينوي” العريقة، ومن أشهر رواياته “Dans la foule” في الحشد و”Des hommes” رجال، و”Histoires de la nuit” حكايات الليل.

د.لنا عبد الرحمن   

https://www.independentarabia.com

📎 رابط مختصر للمقال: https://www.baladnews.com/?p=7057

موضوعات ذات صلة

عزيزي ثيو يحتفي بالمدارس الفنية وذكرى فان جوخ

المحرر

وداعًا للثانوية العامة.. البكالوريا تدخل المشهد وتثير الانقسام

المحرر

رحلة آمنة مع ابنك.. دليل نيلسون للأمومة الحقيقية

المحرر

اقتصاديون يوضحون أهمية زيادة الموارد الدولارية

المحرر

د. خالد سعد: وظفت الفن التجريدي لإحياء تراث ما قبل التاريخ

المحرر

د. مجدي بدران لـ(صوت البلد): “عيش حياتك صح وبلاش أكل غير صحي”

المحرر