ثقافة وأدب

من يملك الحقيقة ؟ أسرار صناعة الكذب في الإعلام الجديد

 في عالم تتسارع فيه تدفقات المعلومات، ويتشابك فيه الحقيقي بالزائف، ويكاد المتلقي يغرق في بحر من الأخبار المتضاربة، يأتي كتاب «صناعة الكذب: كيف نفهم الإعلام البديل؟» للدكتور خالد محمد غازي كعمل فكري ، يضع إصبعه على موضع الجرح، محاولًا استكشاف تعقيدات المشهد الإعلامي الجديد، الذي تقوده أدوات الإعلام الرقمي ومنصات التواصل الاجتماعي، وتزداد فيه ظاهرة “الصحفي المواطن” الذي لا يخضع لأي رقابة مهنية أو مرجعية معرفية واضحة. هذا الكتاب ليس دراسة أكاديمية جافة، بل هو صرخة وعي، وتحليل لواقعٍ إعلامي ملتبس يتطلب منّا جميعًا أن نعيد النظر في كيفية تلقي المعلومة، وفي من يصنعها، ولماذا.

ينطلق المؤلف من وعي عميق بتحولات المشهد الإعلامي العالمي، حيث لم تعد المؤسسات الإعلامية التقليدية هي المصدر الوحيد للخبر والتحليل، بل باتت تتقاسم هذه المهمة مع أفراد عاديين يمتلكون هواتف ذكية واتصالًا دائمًا بالشبكة. لقد تغيرت طبيعة الإعلام ذاته، وتحولت السلطة من النخبة المهنية إلى الجمهور العام، مما أفضى إلى مشهد جديد لا يمكن تجاهله أو الحكم عليه من منطلقات قديمة. وفي خضم هذا التحول، ظهرت صناعة جديدة لا تقل خطرًا عن صناعة السلاح أو صناعة الرأي العام الموجه: إنها صناعة الكذب، تلك التي تقوم على ترويج الأخبار الزائفة، والمعلومات المضللة، والصور المجتزأة، والحوادث المختلقة، كل ذلك بهدف التأثير، والتوجيه، وإعادة تشكيل الوعي العام بما يخدم أهدافًا قد تكون سياسية، أو اقتصادية، أو حتى عقائدية.

إنتاج الحقيقة البديلة

يحلّل الكتاب بذكاء العلاقة المتشابكة بين الإعلام التقليدي والإعلام البديل، حيث لا يتبنى خطابًا عدائيًا ضد الجديد، بل يرى فيه تطورًا طبيعيًا فرضته تكنولوجيا الاتصال، لكنه تطور محفوف بالمخاطر إذا تُرك دون ضبط أو مساءلة. فالإعلام البديل، برغم مرونته وسرعة تفاعله مع الحدث، يعاني من هشاشة المعايير المهنية، وانعدام التحقق، واعتماده على الانفعال بدل التحليل، وهو ما يجعله سلاحًا ذا حدين: يمكنه أن يفضح فسادًا مستترًا، كما يمكنه أن يشوّه الحقائق ويغتال السمعة. ويرى غازي أن العلاقة بين النوعين من الإعلام يجب ألا تكون خصمية، بل تكاملية، حيث يستفيد الإعلام التقليدي من زخم الجديد وسرعته، فيما يوفر له التحليل والخلفية والتوثيق.

لكن الأخطر في هذا المشهد هو ما يسميه المؤلف “إنتاج الحقيقة البديلة”، وهو نمط إعلامي جديد لا يكتفي بالكذب بل يبني واقعًا زائفًا متكاملًا، يتضمن شخصيات، وأحداثًا، وسياقات زمنية ومكانية، بحيث تبدو القصة المختلقة وكأنها واقعية تمامًا. وهذا النمط يعتمد على استخدام مزيج من تقنيات الاتصال، وتكتيكات الإقناع العاطفي، وتضخيم الصور، وتكرار الرسائل عبر قنوات مختلفة حتى يتم تثبيتها في وعي المتلقي. وهو ما يجعل مهمة المتابع العادي أكثر تعقيدًا، لأنه يواجه سيلًا من “الحقائق” التي لا يعرف كيف يميز بينها.

                                                                                        

ولعل أكثر ما يلفت في الطرح الذي يقدمه خالد محمد غازي، هو وعيه بأن الكذب الإعلامي لم يعد حكرًا على الحكومات أو الدوائر السياسية، بل بات يُنتج من قبل جماعات ضغط، وشركات، وأفراد، وحتى مستخدمين عاديين يرغبون في لفت الانتباه أو جني الربح. الإعلام لم يعد وسيلة محايدة، بل صار ساحة صراع ونفوذ، وأداة تشكيل للرأي والمزاج الجمعي. وهنا تظهر الحاجة المُلحّة إلى بناء ثقافة إعلامية جديدة، لا تكتفي بتعليم الناس مهارات التلقي، بل تمنحهم أدوات التحليل، والفهم، والشك المنهجي، بحيث يصبح كل متلقٍ مشاركًا فاعلًا في فلترة المعلومة، لا مجرد مستقبل سلبي لها.

معلومات زائفة

يخصص المؤلف جانبًا مهمًا من تحليله لتفكيك البنية النفسية والعاطفية التي يعتمد عليها الإعلام البديل في صناعة تأثيره. فالأمر لا يقتصر على المعلومة الزائفة، بل يتعدى ذلك إلى طريقة عرضها، واستخدام الصور المؤثرة، والموسيقى الحزينة، والقصص الفردية ذات الطابع التراجيدي، كل ذلك بهدف توليد تعاطف آني يدفع المتلقي إلى إعادة النشر دون أن يتوقف ليتساءل: هل ما أراه حقيقي فعلًا؟ هل تم توظيف مشاعري لخدمة غرض خفي؟ هذا النوع من التأثير العاطفي، بحسب غازي، هو ما يمنح الإعلام البديل قوته، لكنه أيضًا ما يجعله عرضة للانفلات الأخلاقي.

ولأن الكاتب لا يريد أن يكتفي بالتشخيص، فإنه يقدم في المقابل جملة من الحلول والمقترحات العملية التي يمكن أن تُسهم في بناء مشهد إعلامي أكثر توازنًا. يبدأ ذلك بتأكيد أهمية وجود وحدات متخصصة داخل المؤسسات الإعلامية للتحقق من الأخبار، وتدريب الصحفيين على تقنيات رصد المحتوى الرقمي الزائف، وتدشين مبادرات تشاركية بين المؤسسات والجمهور لتعزيز الثقة والمصداقية. كما يدعو إلى تبني آليات تشريعية تُجبر المنصات الكبرى على الإفصاح عن مصادر الأخبار، والتعامل بصرامة مع الحسابات المزيفة، والروبوتات التي تُستخدم لتضخيم الرسائل أو خلق اتجاهات زائفة في الرأي العام.

ويؤمن خالد غازي بأن التكنولوجيا لا ينبغي أن تُعزل عن البُعد الأخلاقي، وأن الإعلام البديل، بقدر ما يملك من أدوات التأثير، فهو يحتاج إلى منظومة أخلاقية تُعيد له توازنه. وفي هذا الإطار، يؤكد على دور المجتمع المدني، والمؤسسات التعليمية، في بناء وعي إعلامي نقدي يبدأ من سن مبكرة، بحيث لا يُترك الجيل الجديد فريسة سهلة للشائعات والمحتوى السام. كما يُحذّر من تحول وسائل الإعلام البديل إلى أدوات ترويج للعنف، أو الطائفية، أو الخطابات المتطرفة، مؤكدًا أن المسؤولية لم تعد على عاتق الصحفي وحده، بل على كل مستخدم للمنصات، لأن الجميع اليوم مساهم في صناعة المعلومة وتداولها.

ضاعت الحقيقة

ينطوي الكتاب أيضًا على بُعد فلسفي خفي، يمكن التقاطه بين السطور، وهو السؤال المتعلق بالحقيقة ذاتها: من يصنعها؟ من يملك حق تعريفها؟ هل الحقيقة ملك لمن يملك الوسيلة الأقوى في البث؟ أم أنها نابعة من توازن في القوى، وتحقق في المعلومة، وحضور للضمير المهني؟ هنا لا يدّعي المؤلف امتلاك الإجابة الحاسمة، لكنه يدفع القارئ إلى إعادة التفكير في افتراضاته القديمة، والتخلي عن التصنيفات الساذجة التي تجعل من كل ما يُنشر في الإنترنت حقيقة مطلقة، أو من كل ما يخرج من فم الإعلام الرسمي كذبًا متعمدًا.

ربما تكمن قوة هذا الكتاب في كونه لا يقدم خطابًا مناهضًا للإعلام البديل، بل خطابًا نقديًا متزنًا، لا يقف ضد التكنولوجيا، بل يسعى إلى تهذيب استخدامها. إنه دعوة مفتوحة للتأمل، والمراجعة، وإعادة البناء، ليس فقط للبنية الإعلامية، بل لمنظومتنا الإدراكية ذاتها. فالإعلام كما يعرضه خالد محمد غازي، لم يعد مجرد مرآة للواقع، بل أصبح صانعًا له، وأحيانًا مزيّفًا له، وهو ما يتطلب منا جميعًا أن نكون أكثر وعيًا، أكثر دقة، وأكثر إنسانية.

في ختام هذا العمل، لا يشعر القارئ أنه أمام دراسة عابرة أو تحليل لحظي، بل أمام مشروع فكري ، يسعى لتفكيك زمن “ما بعد الحقيقة”، ذلك الزمن الذي تتراجع فيه الوقائع أمام الرواية الأكثر رواجًا، وتُدفن الحقائق تحت أكوام من التفاعل والتضخيم واللايقين. كتاب «صناعة الكذب» هو شهادة في زمن مضطرب، ورسالة تنبيه بأن الإعلام البديل ليس خيرًا مطلقًا ولا شرًا مطلقًا، بل هو ببساطة، مسؤولية جديدة نتحملها جميعًا.

 

د. صلاح حسين

📎 رابط مختصر للمقال: https://www.baladnews.com/?p=451

موضوعات ذات صلة

تكريم محمد حمام في ملتقى الخط العربي

المحرر

شومان: جائزة الدولة للتفوق تكريم لمسيرة 40 عاما

المحرر

عالية ممدوح في أحد طوابق الستينات

المحرر

أساتذة الحديث يفندون مزاعم كاملات عقل ودين

المحرر

الكتب رفيقة العزلة بمحتوياتها وملمسها ورائحة ورقها

المحرر

دينا شحاتة: مزجت الفانتازيا والتراث والواقع في نداهة أصيل

المحرر