وسط التحولات العسكرية والسياسية العاصفة التي يشهدها لبنان، بدأ يتشكل واقع جديد جنوب نهر الليطاني، واقع لا يشبه ما كان سائداً خلال العقود الماضية حين شكل حزب الله مرجعية أمنية وعسكرية شبه مطلقة في تلك المنطقة. اليوم، الجيش اللبناني يتقدم بخطى ثابتة، مفككًا أكثر من 500 موقع ومخزن سلاح تابع للحزب، وفق ما أعلنه رئيس الحكومة نواف سلام، في مؤشر على بداية تحول كبير في ميزان النفوذ الداخلي.
المفارقة ليست فقط في عدد المواقع التي تم تفكيكها، بل في المرونة التي أظهرها حزب الله في تمرير هذه الخطوة، وهو ما يشير إلى حجم الإكراهات التي يواجهها التنظيم، سواء من ضغوط ميدانية بعد الضربات الإسرائيلية العنيفة، أو من بيئة سياسية لم تعد قادرة على تحمل مزيد من الاستنزاف. الحزب، الذي كان يرفض سابقا مجرد النقاش في ملف نزع السلاح أو تسليم مواقعه، بات اليوم يتعامل مع تلك الملفات بحذر وتكييف، في محاولة منه لتقليل الخسائر واستباق الأسوأ، فمنذ اندلاع المواجهة الأخيرة مع إسرائيل على خلفية الحرب في غزة، تلقى حزب الله ضربات موجعة أفقدته كثيرًا من كوادره الميدانيين وقياداته البارزة، ما جعله يدخل حالة من المراجعة الاستراتيجية. ومع ازدياد التململ الداخلي، ووضوح الرسائل الدولية، خاصة من الولايات المتحدة وفرنسا، بدا أن الحزب بات أمام مفترق طرق: إما الانخراط في عملية ضبط داخلية ضمن القرار 1701، أو المضي في المواجهة بما يحمله كلفة وجودية أكبر.
رئيس الحكومة نواف سلام تحدث بصراحة عن الوضع، معلنا أن “الجيش اللبناني يواصل توسيع انتشاره جنوب الليطاني”، لكنه ربط ذلك بضرورة وقف الانتهاكات الإسرائيلية، مشيرًا إلى أن أي استقرار لا يمكن تحقيقه ما دامت إسرائيل تحتل أجزاء من الأراضي اللبنانية وتواصل خرق السيادة الجوية والبرية. هذا الربط ليس عبثا، بل يعكس مقاربة رسمية متوازنة تهدف إلى تعزيز شرعية الدولة من جهة، وعدم استفزاز الحزب بشكل مباشر من جهة أخرى.
الانفلات العسكري
وفي ظل هذه التطورات، لا يمكن تجاهل دور الجيش اللبناني الذي بدا أكثر حضورا وقدرة على التحرك في الجنوب.الرئيس اللبناني جوزيف عون، القائد الذي يحظى بدعم داخلي وخارجي، يواصل تنفيذ استراتيجية تهدف إلى حصر السلاح بيد الدولة، وهو التوجه الذي يلقى قبولاً ضمنيا من أطراف سياسية عدة، حتى تلك المحسوبة تقليديا على محور المقاومة، إدراكا منها بأن الانفلات العسكري لم يعد مجديًا في ظل الأزمة الاقتصادية والمعيشية الحادة.
في هذا السياق، لم يعد مستغربا أن يظهر حزب الله وكأنه يبتلع جزءًا من مرارته، مقدما تنازلات محسوبة تحفظ ما تبقى من صورته الشعبية، دون أن يظهر تراجعا كاملاً عن ثوابته. لكنه في العمق، يدرك أن موازين القوى تغيرت، وأن إعادة ترميم قدراته تحتاج إلى وقت طويل، وربما إلى إعادة صياغة تحالفاته الإقليمية
ورغم ذلك، لم تتوقف الاستفزازات الإسرائيلية، فمع تفكيك مواقع الحزب، نفذ الطيران الإسرائيلي غارات جديدة على الضاحية الجنوبية، مع توجيه إنذارات مباشرة إلى سكان أحياء الحدث وحارة حريك وبرج البراجنة إخلاء منازلهم، ما سبب موجة نزوح سريعة. الرسالة الإسرائيلية كانت واضحة: لا خطوط حمراء في المواجهة المقبلة، حتى لو طال القصف عمق العاصمة.
في المقابل، تظهر الدولة اللبنانية موقفا أكثر حزما على الصعيد الدولي. الحكومة تطالب بتنفيذ كامل للقرار 1701 بما يشمل انسحاب إسرائيل من المواقع الخمسة المتبقية على الحدود، وتؤكد تمسكها بإعادة النازحين وإعمار المناطق الجنوبية، وهو ما يعزز موقعها التفاوضي في أي تسوية مستقبلية.
الأفق لا يزال ضبابيًا، لكنّ الاتجاه العام يشير إلى مرحلة جديدة تتبلور ببطء، حيث تتراجع هيمنة السلاح خارج إطار الدولة، وتتقدم أولويات الأمن المشترك وإعادة الاعتبار للدولة كمظلة جامعة. هذه ليست نهاية حزب الله، لكنها ربما بداية تحول عميق في أدواره، من مشروع مقاومة إلى طرف سياسي عليه أن يتكيف مع متغيرات الداخل اللبناني وموازين الخارج.
وتتعدد السيناريوهات المحتملة. فهل يستمر حزب الله في سياسة الانكفاء المرحلي؟ أم يعود إلى التصعيد لإعادة التموضع؟ وهل يستطيع الجيش اللبناني المحافظة على ما أنجزه جنوب الليطاني؟ الأكيد أن لبنان دخل مرحلة دقيقة من إعادة ترتيب أوراقه، وأن الأيام المقبلة ستكشف مدى قدرة الأطراف كافة على التعايش مع مرحلة تفرض التنازلات أكثر مما تتيح المكاسب
