مقال رئيس التحرير

الصحفي الإلكتروني بين المهام المتشابكة

د. خالد غازي

التحول الرقمي في الصحافة، الذي تميز بانتقال عدد كبير من المؤسسات الإعلامية من النشر الورقي إلى النشر الإلكتروني، وكذلك تأسيس صحف إلكترونية جديدة، يعكس تغيرات عميقة في صناعة الإعلام عالميًا وفي العالم العربي على حد سواء. هذا التحول، المدفوع بتكلفة النشر المنخفضة على الإنترنت والرغبة في الوصول إلى جمهور أوسع وتحقيق إيرادات إعلانية متزايدة، قد أدى إلى إشكاليات كبيرة تتعلق بالمحتوى الإعلامي ومهنية العاملين في هذا المجال.

إن الاعتماد على عدد محدود من الصحفيين، الذين قد لا يكونون متخصصين في الصحافة، يضع أعباءً إضافية عليهم ويشتت مهامهم بين التحرير والإعلان والتسويق. وهذا التشابك في الأدوار يؤدي إلى تعقيدات متعددة تؤثر سلبًا على الحياد والمصداقية والالتزام بالضوابط المهنية، مما يفقد المحتوى الإعلامي جودته ويضعف ثقة الجمهور في الصحافة الإلكترونية.

البلدان العربية، مثلها مثل العديد من بلدان العالم التي شهدت ازدهار الصحافة الورقية وخاضت في مرحلة لاحقة عملية الرقمنة، تواجه الآن تحديات مماثلة في ضمان الجودة والاحترافية في الصحافة الإلكترونية. مما يتطلب تعزيز التدريب والتعليم المستمر للصحفيين لضمان تخصصهم وكفاءتهم في مجالات عملهم المحددة، بالإضافة إلى تطوير ضوابط ومعايير مهنية صارمة تحكم العمل الإعلامي الرقمي.

من الضروري أيضًا الفصل بين الأقسام التحريرية والإعلانية داخل المؤسسات الإعلامية لحماية الحيادية والمصداقية. يجب على الصحف الإلكترونية العربية، كما هو الحال في الدول الأخرى، أن تسعى جاهدة لإيجاد توازن بين تحقيق الأرباح والحفاظ على معايير الجودة الإعلامية، لضمان تقديم محتوى يلبي احتياجات وتوقعات الجمهور في عصر المعلومات الرقمي.

 

طرق تقديم المحتوى

إن التحول الذي شهده العالم الإعلامي مع انتقال الصحافة من الورق إلى الشبكة العنكبوتية أحدث ثورة ليس فقط في طرق تقديم المحتوى، بل أيضًا في بنية العمل داخل المؤسسات الإعلامية. والدراسة التي قام بها ديفيد أرانت وجانا أندرسون (David Arant and Jana Anderson) تسلط الضوء على تحديات جديدة وردية تواجه الصحفيين العاملين في الصحف الإلكترونية بالولايات المتحدة الأمريكية، مشيرة إلى أن هؤلاء الصحفيين يتحملون عبئًا ثقيلًا من المسؤوليات المتعددة التي تتجاوز كثيرًا ما كان يُطلب منهم في العصر الورقي. وهذه الوضعية تعكس تحدياً مهنياً وأخلاقياً مزدوجاً؛ من جهة، تُظهر الحاجة الماسة للتكيف مع متطلبات العصر الرقمي وسرعته الفائقة في تدفق المعلومات وتعدد المهام، ومن جهة أخرى، تبرز المخاطر المتعلقة بالدقة، الموضوعية، والمهنية التي قد تتأثر سلباً نتيجة هذا الضغط.

وتنبع أهمية الدراسة من تسليطها الضوء على الضغوط المالية التي تعاني منها الصحف الإلكترونية، والتي تدفعها إلى الاعتماد على عدد أقل من الموظفين المتفرغين، مما يزيد من تحديات الحفاظ على جودة المحتوى والالتزام بالمعايير الأخلاقية.

هذه الظروف تحتم على الصناعة الإعلامية والمهنيين فيها إعادة النظر في كيفية تنظيم العمل وتوزيع المهام بطريقة تضمن تحقيق التوازن بين الكفاءة الإنتاجية والمسؤولية الأخلاقية. ويتطلب ذلك تطوير نماذج عمل جديدة تراعي الحاجة إلى التخصص وتقليل الضغط على الصحفيين، مع الحفاظ على مستوى عالٍ من الدقة في المحتوى الإعلامي.

إن التوصل إلى حلول مستدامة لهذه التحديات يعد ضروريًا لضمان استمرارية الصحافة الإلكترونية كمصدر موثوق ومهني للمعلومات في عصر المعلوماتية السريع.

وتكشف الفجوة بين الصحف الورقية التقليدية ونظيرتها الإلكترونية عن تحديات جوهرية تؤثر على جودة العمل الإعلامي في العصر الرقمي. الصحف التقليدية، ببنيتها المؤسسية الراسخة وتقسيمها الواضح للأقسام المتخصصة، توفر نموذجًا يضمن التغطية الشاملة والمهنية لمختلف المجالات الإخبارية. هذا التنظيم يسمح بتحقيق التوازن بين العمق التحليلي والتغطية الإخبارية الشاملة، مع الاعتماد على فريق عمل ذي خبرات وتخصصات متعددة.

في المقابل، تعاني الصحف الإلكترونية من إشكاليات تتعلق بنقص في التخصص والتصنيفات الواضحة للمحتوى، وغالبًا ما تعمل بفرق صغيرة ومحدودة الخبرة نسبيًا، مما يؤدي إلى تداخل المهام وضغوط عمل متزايدة. هذا النقص في التخصص يمكن أن يقلل من عمق وجودة التغطية الإخبارية، خصوصًا في مجالات تتطلب خبرة ومعرفة عميقة.

إضافة إلى ذلك، فإن الهاجس المتعلق بزيادة زيارات الموقع وتحصيل العائدات الإعلانية يمثل تحديا آخر يواجه الصحافة الإلكترونية. هذا الضغط نحو تحقيق الربحية قد يؤدي إلى التركيز على المحتوى الجذاب للجمهور على حساب الأعمال الصحفية الميدانية التي تتطلب وقتًا ومواردًا أكبر، ونتيجة لذلك، قد تتأثر القيمة والجودة الإخبارية، مما يؤثر سلبًا على المهنية والمصداقية الإعلامية.

لمواجهة هذه الاشكاليات يتطلب الأمر إعادة التفكير في كيفية تنظيم العمل داخل الصحف الإلكترونية وتطوير التخصص والمهنية. ويمكن أن يشمل ذلك تطوير نماذج عمل تركز على الجودة والعمق الإخباري بالإضافة إلى الكفاءة الإعلانية، واستثمار في التدريب والتطوير المهني للصحفيين، وتالتعاون بين المؤسسات الإعلامية لتبادل الموارد والخبرات.والبحث عن طرق مبتكرة لتمويل الأعمال الصحفية الميدانية دون الاعتماد الكلي على الإعلانات، لضمان استقلالية التحرير وتقديم محتوى ذي قيمة مضافة للجمهور.

📎 رابط مختصر للمقال: https://www.baladnews.com/?p=6236