ثقافة وأدب

رحلة للمنابع .. كيف تطورت العربية من جذورها السامية؟

تعد  شجرة اللغة العربية هي الأقدم تاريخيا بجذورها الضاربة في عمق الأرض وفروعها المثمرة أجيالا بعيدة بنفس المبنى والمعنى، وإيقاعها المنضبط صوتا وكتابة وجرسًا، تعبيرها المتنوع الدقيق عن كل شيء، ومنجزها الهائل .. كل ذلك جعلها لغة معتمدة أقرتها هيئة الأمم المتحدة ومنظماتها منذ عام 1973م بين اللغات الست العالمية المعتمدة.

كان أفلاطون يرى بأن اللغة هبة إلهية، وهذا ما جرى مع العربية التي تنتمي طبقًا لتصنيف علماء اللغة المحدثين إلى عائلة اللغات السامية، وقد أطلق هذا الوصف العالم الألماني شلوتزر، في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي.

ويشير عباس العقاد في كتابه “أشتات مجتمعات” إلى تقسيم اللغات في مفرداتها وتراكيبها إلى : لغات النحت (اللغات الهندو-أوروبية)، لغات التجميع (اللغات المغولية والأمريكية) ولغات الاشتقاق (اللغات السامية) وتأتي العربية على رأس تلك اللغاتوسنجد أوجه قرابة اللغات السامية ومن ذلك كلمة “ماء” في العربية هي في الإثيوبية (ماي)، وفيا لاكادية (مو)، وفي الأوغاريتية  (مي) وفي الآرامية (ميّا) وفي العبرية (مَبم)، وكلمة مثل (بيت) في العربية، نجدها في الإثيوبية (بت)، وفي الأكادية (بيت)، وفي الأوغاريتية (بت)، وفي الآرامية (بيتا) وفي العبرية (بَيت)، بحسب “معجم مفردات المشترك السامي في اللغة العربية” للدكتور حازم كمال الدين.

ويعتبر الخليل بن أحمد الفراهيدي (المتوفى 175هـ) في معجمه (العين) أن الكنعانيين كانوا يتكلمون بلغة تضارع اللغة العربية أي تشبهها.

في القرن الرابع الهجري، يبرز ابن حزم الأندلسي، في كتابه “الإحكام في أصول الأحكام” قوة العلاقة بين اللغة العربية وجاراتها من اللغات السامية.  يقول ابن حزم: إن الذي وقفنا عليه، وعلمناه يقينا، أن السريانية والعبرانية والعربية، التي هي لغة مضر-لا لغة حمير- واحدة تبدلت بتبدل مساكن أهلها، فحدث فيها جرش كالذي يحدث من الأندلسي إذا رام نغمة (لهجة) أهل القيروان، ومن تدبر تلك اللغات وجد أنها لغة واحدة في الأصل.

وفي “البحر المحيط” ينظر أبوحيان التوحيدي (المتوفي 754هـ) للعلاقة بين العربية والحبشية، قائلا أن اللغتان تتوافقان كثيرا في ألفاظ وقواعد وتراكيب نحوية وهمزة التعدية وتاء التأنيث.

وتشير الموسوعة العربية العالمية أيضا إلى اكتساب اللغات السامية التي تنتمي إليها العربية، أهمية قصوى بين اللغات؛ لنزول الكتب السماوية (القرآن، والإنجيل، والتوراة) ببعض لغاتها. كما أن الأنبياء المعروفين جميعا بعثوا من أبناء الشعوب التي تتحدث بها، وتبلغ هذه الشعوب الآن 4% من سكان المعمورة!! فيما تتحدث بعائلة اللغات الهندو أوروبية 47% وبعائلة اللغات الصينية التبتية 22% من سكان العالم.

أول من تحدث بالعربية

نشأت اللغة العربية الفصيحة في شمالي الجزيرة العربية. ويرجع أصلها إلى العربية الشمالية القديمة التي كان يتكلم بها العدنانيون. وهي لغة تختلف في كثير من مكوناتها وأساليبها وأصواتها عن العربية الجنوبية القديمة، التي نشأت في جنوبي الجزيرة وعرفت قديما باللغة الحميرية، وكان يتكلم بها القحطانيون.

ويرى تيري ديونج أن اللغة العربية من أحدث اللغات السامية نشاة وتاريخا، ولكن الشواهد التاريخية والدراسات تؤكد عكس ذلك، حيث يرى حنا الفاخوري صاحب تاريخ الأدب العربي ان العربية، ولاحتباسها في جزيرة العرب، لم تتعرض لما تعرضت له باقي اللغات السامية الأخرى من اختلاط، فظلت بذلك محافظة على نقائها وأصالتها وخصائص اللغة السامية الأم.

ويذهب البعض إلى أن “يعرب بن كنعان” كان اول من أعرب في كلامه، وتكلم بهذا اللسان العربي فسميت العربية باسمه (البستاني) وورد في حديث نبوي أن نبي الله إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، كان هو اول من فتق لسانه بالعربية المبينة وهو ابن أربعة عشرة سنة، فيما يبتعد فريق ويرون ان العربية كانت لغة آدم في الجنة ..

أدرك العرب الأوائل ضرورة عنصر المعايشة لاكتساب اللغة الفصيحة، ومن ثم فقد حرصوا على إرسال أبنائهم إلى البادية حيث الفضاء الرحب، والصفاء اللغوي، بغية إكسابهم اللغة نقية مبرأة من غنج المدينة، ولكنة الحضر ورطاناته، ولم يكن نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم استثناء، حيث دفع به إلى بادية بني سعد، فرضع مع حليب السيدة الطاهرة حليمة السعديةن فصاحة اللسان وروعة البيان فكان أفصح العرب.

السرقة العبرية للمرجع العربي؟

كان زوال ملك اليهود السياسي، وتدمير بيت المقدس، وحرق الهيكل عام 70 م، على أيدي الرومان، من اعظم الحوادث التي أثرت في تاريخ اليهود الديني واللغوي، وغيرت مجراه؛ فقد أدى تشتتهم في بلاد العالم، إلى تأثرهم بلغات تلك البلادن وكان اكثرها أثرا في لغتهم، هي اللغة العربية، بعد الفتح الإسلامي، وقد بلغ هذا التأثر درجة، جعلت اليهود ينظمون قواعد نحوهمن على غرار قواعد النحو العربي، كما اتخذ شعراؤهم من اوزان الشعر العربي، قوالب يصبون فيها أشعارهم، وتسمى العبرية في هذه الفترة بالعبرية الوسيطة، وهي بالطبع غير عبرية العصر الحديث، التي تأثرت تأثرا كبيرا باللغات الاوروبية وغيرها في كثير من المفردات والأساليب، وذلك بحسب د. مصطفى عبد التواب في كتابه “فصول في فقه العربية”.

وقد استطاع اليهود إحياء اللغة العبرية بعد أن مر على مواتها ألفي عام، يقول أليغازر بن يهودا (1858-1922م) وهو صاحب الدور الكبير في إحياء اللغة العبرية  وكان في محاضرة ألقاها امام مجلس اللغة العبرية باسم “سد النقص في لغتنا” فقال: “لقد اكتشفت جذورا عبرية، عشرات ومئات، في المعاجم العربية، لا أخفي عليكم، فكل الكلمات الموجودة في المعجم العربي ليست عربية خالصة بل سامية وهي على كل حال عبرية أيضا.. إنها ملكنا، لقد فقدناها وها قد عثرنا عليها، ربما أصاب بعضها تغير في الشكل، لكن حين نحورها قليلا ونعطيها شكلا عبريا سيتعرف عليها كل من يراها، إنها البذور التي باركها الله”!

سعى نحاة عبريون لاعتبار لغتهم هي الأقدم بين اللغات السامية، واعتبروا اللغة العربية مشتقة منها، ولكن حقائق اللغة دحضت مزاعمهم.

يقول الدكتور عبدالصبور شاهين (44: 1983م) “أن العربية وصلت إلينا معبرة عن تاريخ بعيد، وتراث عريق، ناطقة على ألسنتنا، كما كانت تنطق على ألسنتهم، دون أن تستغرب، أو تستعجم. فأصولها وصيغها وتراكيبها، هي هي، لم يصبها التغيير رغم تطاول العهود وتعاقب الأجيال. وهذا أمر نادر الحدوث في عالم اللغات لم يسجله التاريخ إلا للغة العربية” على حين أن نصوص اللغات الاخرى تستغلق على الفهم إذا مضى على إنشائها قرنان، بل قرن واحد”

لهذا يرى بروكلمان أن اللغة العربية تفترق عن غيرها (من اللغات السامية) في احتفاظها الكامل بالأصوات الأصلية الغنية، على الأخص بأصوات الحلق وأصوات الصفير المختلفة، كما أنها تفترق عنها كذلك في احتفاظها التام بالحركات القديمة، ثم إن طريقة بناء الصيغ في السامية الأولى توجد في العربية في أرقى مراحل تطورها، وأيد العالمان “نيكلسون واوليري هذا الرأي مؤكدين أن اللغة العربية هي أصفى اللغات السامية، وأقربها إلى النبع الأول، ولهذا صمدت اللغة العربية وبادت سائر اللغات إلا من مجموعات قليلة تسعى للتمسك منها ومنها الآرامية والسريانية في سوريا.

📎 رابط مختصر للمقال: https://www.baladnews.com/?p=4658

موضوعات ذات صلة

استراتيجيات الدمج الثقافي.. مصر وعُمان نموذجًا .. في معرض القاهرة للكتاب

المحرر

دينا شحاتة: مزجت الفانتازيا والتراث والواقع في نداهة أصيل

المحرر

نوبل السلام وترامب.. هل يسخر القدر مجددًا؟

المحرر

آشا، الجعران والقمر تسترجع منسيات الأساطير النوبية

المحرر

وزارة الثقافة تستعد لملتقى الاقصر الدولي للتصوير

المحرر

في عيده الـ113.. إبداعات نجيب محفوظ تبوح بأسرار جديدة

المحرر