سليدر

قناع بلون السماء.. تحرر الروح من أسر الجلاد الصهيوني

غنّيت كي أزن المدى المهدور .. في وجع الحمامة”، من جدارية محمود درويش ينطلق المناضل والروائي الفلسطيني باسم خندقي، في بناء روايته الحائزة عن جدارة لجائزة “البوكر” للرواية العربية، وقد تمرّس طويلا بفعل كونه أسيرًا عتيدًا في سجون الاحتلال الإسرائيلي منذ 2004، فأصبحت الكتابة عنده معادلا للحرية.. يُهرّب نصوصه بين القضبان فيتلقفها العالم ليرى الاحتلال الإسرائيلي بلا قناع!

في الذكرى الأولى لـ”طوفان الأقصى” الموافق 7 أكتوبر، نتتبع خيوط الرواية الفلسطينية الصادرة عن دار “الآداب”، علنا نقترب من الجذور التي قادت لهذا الحدث الضخم.. وخاصة أنها رواية تطرح تيمة “تبادل أقنعة” بين “نور” فلسطيني وآخر صهيوني، ضحية وجلاد، وكأن القدر قد منح المحتل الغاصب فرصة ليرى الوقائع بعين إنسان لا وحش متغطرس.

على الغلاف تبدو قبة الصخرة المقدسة ووشاحها الأخضر من قرى مجاورة، ونسجية فلسطينية على النول، أيقونات تحيط بالكيان الصهيوني وتذكّره بفشله في إثبات شرعية وجوده، أو إمكانية إخفاء جرائم إبادته لقرى بأكملها.

تتوزع الرواية ما بين “نور” اللاجيء الفلسطيني، و”أور” صاحب الهوية الصهيونية، و”سماء” العربية المقيمة في حيفا، في إحاطة بأطراف المعادلة على الأرض، وكساحر واثق ومُعتد بألعابه، يستعرض الراوي خطته لتشكيل عالم متخيل بطله صحفي يبحث عن آثار مريم المجدلية، وهي شخصية لها وجود ملموس في التراث المسيحي، وجاء أن المسيح قد خلّصها من شياطين غوايتها وأنها قد هربت من ملاحقة القديس بطرس ولجأت لكهف تاركة آثارها في صندوق سيعثر عليه نحات بعد ثورة باركوخبا التي دمر فيها الرومان القدس ولاحقوا المتمردين خلال القرن الثاني.. هنا يمتد الخيط بين الماضي والحاضر لفكرة الكولونيالية الغربية والتي تلاحق أصحاب الأرض.

مزيج الحكي

في رواية خندقجي نرى أجناسا أدبية متجاورة ببراعة وتلقائية بداية من الشعر المنثور الذي تحتل موسيقاه مفتتح الفصول، وكذا أدب الرسائل بين “نور” وصديقه “مراد” القابع في سجون الاحتلال، ثم بطاقاته الصوتية عن حياة مريم والتي يتحول معها الحكي لنافذة للحياة، كما ينقلنا لوقائع قرى فلسطين عبر العصور، ومن هنا تصبح الرواية معرفية و”عرفانية” مع نسيج التاريخ والتصوف.

ورغم أن شرود البطل في التفاصيل الغنوصية بحياة مريم المجدلية يبدو مشتتًا لمجرى السرد، ولكنه يربطنا بشخصية متجذرة في تاريخ الأرض، بنى لها امبراطور روسي كنيسة في أواخر القرن الـ19، والتي للأسف تدرجها إسرائيل ضمن معالمها السياحية زورا.

الزمن الفلسطيني

تبرع الرواية في تقديم مفاهيم أعمق للزمان والمكان؛ فنحن إزاء أزمنة ممتدة حتى زمن كتابة الرواية قبل 2021. وهناك أوقات مغايرة لفلسطين؛ وقت المخيمات الثقيل وعقاربه التي تمثلها الأزقة الضيقة، أوقات يهدرها المحتل قسرا من عمر الفلسطينيين عبر حواجز التفتيش والمعتقلات، أوقات أخرى في مستوطناته التي رسمها لتصبح قطعا حداثية غربية.. وأوقات يقتنصها المرابطون في ساحات القدس برغم أنف الاحتلال!

هناك ذكريات مؤلمة مشحونة تمنى البطل لو ضغط زر فضاعت بمهلات شعوره كاي هاتف محمول، كأن يقارن بين رمضان المخيمات حين كان يتيمًا وذلك الذي قضاه مع أسرة شيخ مقدسي، فكان أكثر دفئا وحفاظا على الطقوس الفلسطينية رغم وطأة الأحداث.

لو انتقلنا للمكان، سنرى كيف تلعب المدن دور البطولة في رواية عن الأرض؛ نرى مدنا لها رحم ومدن بدون رحم؛ يشعر “نور” بعزلة وضيق في رام الله التي يسميها بالمدينة الاسمنتية، بينما يجد هيامه في القدس وأحيائها العتيقة ويراها موطنا لقلبه، وبرغم أنه يعيش فيها بهوية مسروقة.

ابن الصمت واللجوء

شخصية البطل تبرز مأساة أجيال عاشت وطأة الاحتلال القاسية، معطوب حائر في مساحة “الما بين” متناقضات كثيرة؛ إنه نور الشهدي الذي اعتقل والده وهو لا يزال جنينا، حُكم على الأب بالسجن عقابا له على مقاومته المحتل، وخرج بعد خمسة أعوام ليجد عروسه قد احتضرت وحيدة خلال وضع ولدهما “نور”.

كان الابن خلال تلك المحن قد حاول أن يجد ميلادا له مع جدته “سمية” التي حكت له عن فلسطين، لكنه يضطر بموتها للانتقال لبيت أبيه المصاب بلعنة الصمت، لعنة أصاب بها زوجته الثانية وأرملة أحد الشهداء من رفاق النضال، كان قد أصابه الذهول من نذالة رفاقه الذين تخلوا عن أسرته واتخذوا طريقهم للمهادنة مع أجواء السلام المزيفة و”أوسلو”، أما هو فوقّع على تعهد بعدم ممارسة “الإرهاب”، وقرر أن يبيع في الحارة شاي وقهوة على عربة صدئة.

هرب “نور” من حياة تتحول فيها لرقم داخل مخيم لجوء، لا أحد يعرف اسمه حتى تقع فيه مجزرة، ووجد ملاذه في اعمال حرفية أصبح ينفق منها على حياته الجامعية، سعى لأن يطوّر إمكاناته وامتلك ناصية اللغتين الإنجليزية والعبرية، كان إضافة لكل ذلك يمتلك قناعا جديدا فهو شاب وسيم بعينين زرقاوين جعلت رفاقه يشبهونه بـ”الاشكنازي” أي اليهودي الأوروبي، ملاحة ورثها عن أمه وأضاف لها أناقة يداري بها بؤسه وصمته العنيد.

رسائل الصديقين

تظهر شخصية “مراد” كمعادل عقلاني لصديقه الأوحد “نور” من خلال رسائل يتبادلها من داخل مقر سجن إسرائيلي، ويصف فيها قسوة الحياة داخل قفص صديء، تضطر أمه لقطع أربع ساعات شهريا للوصول إليه، اما هو فقد درس العلوم السياسية وتخصص في نقد الكولونيالية، وظل يتهكم على صديقه الذي قرر شد الرحال لأجل تتبع تاريخ المجدلية!، وفي الحقيقة فإن الصديقين هما وجهين من شخصية المؤلف الذي تخصص في مواجهة الاحتلال عبر الفكر والأدب معًا. 

أصبح نور مرشدا سياحيا في القدس، صحيح انه حاول المهادنة ولكنه انفجر ذات يوم في نقطة صراع نفسي ساخنة داخل الرواية وإزاء وفد سياحي يزور مستعمرة في القدس تتخللها غابة حجرية لمؤسسي إسرائيل، وأخبرهم بأن لا شيء يعود لشخصيات التوراة “شمشون بن منيح ” أو غيره، لا شيء غير قرى فلسطينية تمت إبادتها، كان حديثه مفاجئا واتهموه بالجنون ففر هاربا ونجا بأعجوبة!.

“نور” و”أور” .. لعبة القناع

احتضن الشيخ “مرسي” الغرناطي “نورا” ووفر له المأوى، وكان هذا الشيخ قد قاسى هدم بيته في حارة المغاربة الذي تحول لحائط المبكى، لكنه عاش بلا “قناع” ومنح نورا لطائف نفسية في زاويته.

في أحد أسواق حيفا القديمة، قادت نور أقداره لمعطف جلدي مستعمل، نسى صاحبه اليهودي بداخله بطاقة هويته، إشارة خاطفة اعتبر “نور” أنها مباركة لزيارة قبر المجدلية، وبعد طمس صورة البطاقة، أصبح “نور” هو “أور شابيرا” وتغلب أخيرا على خوفه من الملاحقة وشارك بأعمال بعثة يقودها معهد أولبرايت الأمريكي قرب موقع مجدو الآثاري.

عاش “نور” فعليا ثلاثين عاما في قناع صمت أبيه والمخيم، فقرر أن يبعث هويته من الرماد، وبعمق إدراكه للعدو لم يذب في هوية المسخ الصهيوني “أور”، طمأن صديقه :أنا مشتبك يا صديقي! في القدس أتجرع أساطير ملعوبا بأسفل سافلها.. ثم ألفظها بعزمي على مواجهة الاغتصاب الذي نتعرض له منذ نكتبتنا الأولى.

يعود “نور” ليرتدي قناعه باعتباره “أور” الصهيوني، يقترب لينفس كل منهما في الآخر شحنة 70 عاما من النكبة، بكل ما فيها من مرارة وسخرية، يذكّره بقرية أبو شوشة التي هجروا أهلها ليبنوا مستوطنة “مشمار هعميق”. كما يدلف الراوي لمساحات من العنصرية في المجتمع الإسرائيلي؛ فنرى زميلته في البعثة “إيالا” وهي يهودية شرقية تكره تعالي الاشكناز، وفي وقت تقبل بأريحية مثلية صديقتيها الجنسية، لكنها أبدا لا تقبل بمشاركة العرب في إسرائيل أو حقهم في الحياة بل وتدعوهم للهجرة لأي أرض أخرى!

سماء.. هوية بلا قناع

بينما تشتعل الأحداث مع المواجهات الساخنة بين الباحثين في البعثة وزميلة تُدعى “سماء” تعيش في حيفا وتعتز بهويتها العربية والإسلامية، يتلألأ وجهها كصباح عيد طفولة بعيد.. رآها “نور” أناه بلا قناع، تواجه بلا خوف كل ادعاءات “إيالا” حين تزدري العرب، مؤكدة لها أن ما تفعله إسرائيل في فلسطين هو الهولوكوست الحقيقي الأبشع على الإطلاق.

في لحظة تجلٍ، رأى نور في منامه مريم المجدلية تتنسك ولكن في صورة “سماء” النورانية واشتم رائحة المسك والمندرين، وحين استيقظ واجهها بحقيقته كعربي .. ليس خائنا ولا مطبّعا ولا ضابط شاباك كما تظن.

تأتي لحظة الخلاص حين تصهر الجميع أحداث مسيرة أعلام يهودية متجهة للبلدة القديمة، وتطلق حركة حماس رشقات إنذار يصفها سكان تل أبيب بالإرهابية متناسين انها مجرد صوت تحوله اسرائيل لأنهار دماء في غزة والقدس والضفة، هنا تعود “سماء” لـ”نور” حين تُصدقه وتراه بلا قناع، ويجد ابن النكبات واللجوء “سماء” نورانية بعد طول شرود وصمت..  انتزع نجمة داود ومزق هويته المزّيفة.. ولازلنا لا نعلم ما سيواجهانه في الجزء الجديد من قصة القناع أو “سادن المحرقة”.

خندقجي اعتُقل على يد القوات الإسرائيلية بعد عملية “سوق الكرمل” عام 2004، وحُكِم عليه في 7 يونيو عام 2005 بالسجن مدى الحياة ..أصدر كتبا ودواوين وروايات عن فلسطين تُرجمت للغات عدة، وهو يرى أن الأدب وحده هو ما يجعل القضية حية، أما السياسة فتموت بموت صاحبها!

📎 رابط مختصر للمقال: https://www.baladnews.com/?p=391

موضوعات ذات صلة

مزارعون يشتكون من انخفاض أسعار الطماطم

المحرر

برلمانية تطالب بكشف أسباب خصم ٣٠٪ من راتب معلمي الحصة

المحرر

شعبة الخضروات توضح أسعار المحاصيل خلال رمضان

المحرر

منظومة تعاقدية جديدة لحماية دخل المزارعين

المحرر

هل يُعيد البابا تواضروس كتابة تاريخ الكنيسة القبطية؟

حازم رفعت

الاتحاد الشبابي يضع الشباب على خريطة التمكين

المحرر