شؤون سياسية

لجنة السويداء: حساب مؤجل أم عدالة منتظرة

فى لحظة فارقة من تاريخ سوريا المعاصر، اختارت دمشق أن تتحرك على خط الأزمة، فأصدرت قرارًا بتشكيل لجنة تقصى حقائق للتحقيق فى أحداث العنف الأخيرة بمحافظة السويداء. القرار يحمل فى طياته دلالات عديدة، تبدأ من الاعتراف بخطورة ما جرى، ولا تنتهى عند حدود تهدئة الداخل وطمأنة الخارج. لكن التحدى الحقيقى لا يكمن فى إصدار المرسوم، بل فى طبيعة ما ستكشفه اللجنة، ومدى قدرتها على اجتياز اختبار الشفافية والمحاسبة.

التحرك جاء متأخرا نسبيا بعد أن تصاعدت وتيرة الانتقادات الدولية والإقليمية، خاصة فى ظل المخاوف المتصاعدة من أن تكون الاشتباكات الأخيرة بداية لانزلاق طائفى جديد. السويداء، التى تُعد معقلا للطائفة الدرزية، شهدت مواجهات دامية بين مسلحين دروز وبعض عشائر البدو، وتورط فيها عناصر من القوات النظامية، ما فتح الباب أمام اتهامات بالتحيز، و أعاد إلى الأذهان مشاهد دامية عايشتها البلاد فى مراحل سابقة.

فى هذا السياق، يرى اللواء محمد السعيد، الخبير الأمنى، أن تشكيل اللجنة قد يكون مؤشرا على إدراك القيادة الجديدة لحساسية اللحظة، لكنه لا يغني عن إجراءات أكثر عمقا تعالج جذور الأزمة. يؤكد السعيد أن السويداء ليست مجرد محافظة ساخنة، لكنها نموذج لما قد تشهده مناطق أخرى إذا لم تُعالج التوترات الطائفية بحكمة وعدالة، مشيرًا إلى أن التعامل الأمنى وحده لم يعد كافيا.

من جانبه، يعتقد اللواء سمير فرج، المحلل السياسى، أن اللجنة الجديدة تسعى لتقديم صورة مغايرة عن النمط القديم لإدارة الأزمات فى سوريا، لكن نجاحها مشروط بالإفصاح الكامل عن نتائج التحقيق، ومحاسبة المتورطين مهما كانت مواقعهم أو انتماءاتهم. فرج يشير إلى أن دمشق أمام فرصة لتصحيح المسار، خاصة بعد الهزة التى تعرضت لها صورة الحكومة الجديدة عقب سقوط نظام الأسد، وما تبعها من أحداث عنف فى الساحل والسويداء.

والمفارقة أن هذه اللجنة ليست الأولى من نوعها، فقد سبقتها لجنة مماثلة شكلت بعد مجازر الساحل فى مارس الماضى، وأحالت عشرات المتهمين إلى القضاء، لكنها لم تقنع الجميع بأن العدالة تمت بالفعل. لذلك، فإن مصداقية اللجنة الحالية ترتبط بمدى جديتها، وليس فقط بما ستعلنه من توصيات.

التوقيت أيضًا ليس بعيدًا عن الحسابات السياسية، ففى ظل محاولات دمشق لإعادة تقديم نفسها كسلطة مسؤولة أمام المجتمع الدولى، تبدو اللجنة خطوة فى اتجاه ترميم العلاقات الخارجية، خاصة مع الدول الغربية التى تشترط شفافية الحكم واحترام حقوق الإنسان كمدخل لأى دعم أو اعتراف. كما أن الإعلان عن اللجنة يأتى فى أعقاب تدخل إسرائيلى مباشر فى ملف السويداء، وهو ما يعكس حجم التحديات المتشابكة أمام الحكومة.

على الأرض، تبقى الحقائق أكثر تعقيدا مما يقال فى التصريحات الرسمية. عدد الضحايا يتجاوز المئات، والتوتر بين الطوائف لا يزال قائما، والخوف من اندلاع موجات جديدة من العنف يضغط على الجميع. ومع ذلك، فإن خطوة تشكيل اللجنة تمثل بداية ضرورية لمسار طويل من المصالحة الحقيقية، إذا ما خلصت النوايا وتوفرت الإرادة.

المهام المعلنة للجنة تتضمن التحقيق فى الملابسات، والاستماع إلى شهادات الضحايا، وجمع الأدلة، وإحالة المتورطين إلى القضاء، ومن المقرر أن تقدم تقريرها خلال 3 أشهر. لكن هذا الإطار الزمنى لن يكون ذا جدوى إذا لم تترجم النتائج إلى إجراءات فعلية، تعيد الثقة فى الدولة، وتُنهى دوامة الإفلات من العقاب.

ما جرى فى السويداء لا يمكن فصله عن صورة سوريا المستقبل، ولا يمكن تجاهله باعتباره حدثا عابرا. فإما أن تنجح اللجنة فى تحويل لحظة الغضب إلى نقطة تحول حقيقية، أو يضاف إلى سجل اللجان التى لم تغير شيئًا، وتركت الجراح مفتوحة. السوريون الآن لا ينتظرون لجانا، بل ينتظرون عدالة لا تنحاز، ومصالحة لا تفرض، ومستقبل لا يكتب بالدم.

📎 رابط مختصر للمقال: https://www.baladnews.com/?p=5469

موضوعات ذات صلة

قانون أمريكي مرتقب لإدراج الإخوان إرهابيين

المحرر

خروقات وانتهاكات الانتخابات البرلمانية.. من يقف وراءها؟

محمود كرم

الضغط التركى وتعقيد الموقف للوساطة العراقية

المحرر

قانون التصرف في أملاك الدولة.. ماهو أثره ؟

المحرر

قانون الأحوال الشخصية الجديد في ميزان الخبراء

المحرر

إيران : مصداقية الاندماج و التعايش السلمي بين الواقع والخيال

المحرر