
بالتحرك نحو إعادة صياغة أدوات قوتها، تبدو واشنطن وكأنها تفتح صفحة جديدة فى علاقتها بالشرق الأوسط، خصوصًا بعد إقرار مجلس النواب الأمريكى النسخة الجديدة من قانون الدفاع لعام 2026، والذى حمل بين سطوره ملامح مرحلة سياسية وأمنية مختلفة عن تلك التى حكمت المنطقة منذ أوائل التسعينيات. فمن خلال إلغاء تفويضات الحرب القديمة وربط المساعدات العسكرية بشروط صارمة، تسعى الولايات المتحدة إلى تثبيت حضور أقل ضجيجًا لكنه أكثر تأثيرًا.
فلسفة القوة الامريكية
ومن خلال قراءة دقيقة لمضامين القانون، يتضح أن القرار لا يتعلق بالانسحاب بقدر ما يكشف عن انتقال تدريجى من سياسة “الحروب المفتوحة” إلى إدارة أكثر ضبطًا للمخاطر الحالية. فالقانون ألغى رسميًا تفويض 1991 الخاص بحرب الخليج، وتفويض 2002 المستخدم فى غزو العراق، وهو ما يعنى إسقاط السند القانونى الذى اعتمدت عليه الإدارات الأمريكية لتنفيذ عمليات عسكرية دون العودة للكونغرس. لكن هذا الإلغاء لم يترافق مع نية لسحب القوات، بل مع رغبة فى إعادة صياغة حضورها.
ويرى العقيد هانى الحلبى، الخبير الأمنى، فى تحليل له أن واشنطن لا تتعامل مع العراق باعتباره ساحة صراع قديمة، بل باعتباره ملف أمن قومى يرتبط بتوازنات حساسة. ويشير إلى أن خطوة إلغاء التفويضات لا تعنى تخفيف الاهتمام، بل تعكس رغبة فى “تطبيع” شكل الوجود العسكرى عبر تحويله من عمليات هجومية مفتوحة إلى تعاون مشروط يضمن الحد من نفوذ المليشيات ويحافظ على المصالح الأمريكية فى المنطقة. ويوضح أن تجميد نصف ميزانية مكتب التعاون الأمنى فى العراق ليس مجرد أداة مالية، بل ورقة ضغط تستخدمها واشنطن لضبط علاقة بغداد بالقوى المسلحة غير الرسمية.
أما فى الجانب السياسى، فتشير الكاتبة السياسية رشا فتحى، أمين العمل الجماهيرى بحزب مستقبل وطن، فى قراءاتها للشأن الإقليمى، إلى أن واشنطن تتعامل مع العراق وسوريا باعتبارهما مفتاحين لاستقرار النفوذ الغربى فى الشرق الأوسط. وترى أن التشدد الأمريكى فى شروط الدعم العسكرى لبغداد يعكس رغبة واضحة فى دفع الحكومة العراقية نحو مواجهة نفوذ المليشيات، وهو ما ينسجم مع توتر إقليمى يتصاعد كلما تغيّرت خرائط النفوذ بين طهران وواشنطن. وتؤكد أن الولايات المتحدة تحاول صياغة حضورها بطريقة متحركة ومرنة”، تتيح لها البقاء دون أن تتحمل تكلفة سياسية أو عسكرية مرتفعة.
تهديد الميليشيات
وتكشف بنود القانون أيضًا عن حساسية الملف السورى، إذ حظر الكونغرس أى تقليص أو دمج للقواعد الأمريكية فى سوريا قبل الحصول على تأكيدات عسكرية بأن الخطوة لن تخلق فراغًا أمنيًا. ويتوازى ذلك مع تأكيدات أمريكية مستمرة بأن تنظيم داعش مازال يمثل تهديدًا قابلًا للعودة، وهو ما يبرر استمرار العمليات الخاصة ودعم المجموعات السورية المتحالفة مع التحالف الدولى. ويرى خبراء أمنيون أن التركيز على حماية مخيمات اعتقال الدواعش، خصوصًا الهول وروج، يعكس إدراكًا أمريكيًا بأن هذه البؤر يمكن أن تتحول إلى “معامل إعادة إنتاج” للتطرف إذا تُركت دون رقابة مشددة.
ومن خلال ربط الملفات ببعضها، يبدو أن السياسة الأمريكية الجديدة لا تعتمد على القوة العسكرية المباشرة، بل على شبكة من الأدوات المتداخلة: دعم مشروط، رقابة مالية، تعزيز نفوذ المؤسسات الرسمية على حساب الفصائل المسلحة، ومنع أى انسحابات قد تغيّر توازنات الشرق السورى والعراقى. وهى أدوات تمنح واشنطن القدرة على إدارة المشهد دون أن تنجر إلى مواجهات واسعة كما حدث فى العقدين الماضيين.
الضغوط والدعم
ومن زاوية التحليل العام، يعكس “قانون الدفاع 2026” أن الولايات المتحدة لا تغادر الشرق الأوسط، لكنها تغيّر طريقة وجودها. فبين إلغاء التفويضات القديمة، وتشديد القبضة على الدعم للعراق، ومنع الانسحاب من سوريا، وتعزيز أمن المخيمات، يتشكل مشهد جديد يعتمد على إدارة المخاطر لا شن الحروب، وعلى تثبيت النفوذ من دون استنزاف.
وبهذا النهج، تبدو واشنطن وكأنها تنتقل من منطق القوة الصلبة إلى حضور محسوب، يمنحها إمكانية التأثير فى الملفات الكبرى دون أن تتحمل تبعات الانخراط الكامل، فى لحظة إقليمية تتغير فيها التحالفات بشكل سريع
