حلقة جديدة في عقد السرد الفاتن للكاتب وحيد الطويلة، وهي “الحب بمن حضر” الصادرة عن دار “بتانة”، والتي تبدو نزوحًا من الروائي لمعادلة قسوة عالمنا بوقائع قرية بعيدة كان الحب مكتوبا لها وعليها للهروب من لعنة الموت والفناء.. ربما أراد الكاتب هنا أن يصنع لنفسه استراحة مقاتل بعد “كاتيوشا” و”حذاء فيلليني” و”جنازة جديدة لعماد حمدي” وهي محطات مشحونة بالحرب والاستبداد وانتهاكات حقوق الإنسان في عالمنا العربي..
تبدأ الرواية مع إهداء مجتزأ من أغنية أفريقية عن الحب: “الحنان ليس كالحب؛ الحب أن تملأ المعدة بكلامه. والحنان ألا تشبع من كلامه، حتى ولو لم يقل شيئا”.
من حكاية عجوز سبعيني يصنع قوالب الطوب والفخار ويحرقها في جوف قمينة، يدلف بنا راوٍ على الناي لبداية الأسطورة، وهو الذي باسمه وصفته سيطل من نصف عناوين فصول الرواية، وكأنه يذكرك بأنك إزاء حكاية شعبية يتوارثها الأحفاد عن الأجداد ويغنيها المنشدون ليس على الربابة هنا لكن على الناي الذي يحمل شجنًا وسحرًا يليق بحكاية مسكونة بالحب والموت!
العجوز والأسطورة
يمارس الطويلة على طول الحكاية لعبة الإيهام وكسره؛ وكلما استرسل الراوي في الأسطورة، توقف ليتحدث إليك أنت وأنتم قراء الرواية، يمزح ويسأل بعفوية شديدة، فيقول مثلا عن العجوز السبعيني: “عجوز مشوش، قولوا مرعوب، آه والله مرعوب، لكن أنا أحب أن أخفف عنكم، ولا أصدمكم”.
هذا العجوز ليس عابرًا في حياة أهل البلدة التي لم يخترع لها الراوي اسمًا، لأنها تمثل كل أرض عرفت الحب والموت؛ فهو الرجل الذي يعتقد أهل القرية أن روحه مرتبطة بأرواحهم، ولو طلعت روحه سيأتي من يقضي على الزرع ويحصد الأرواح كلها، أما القمينة فهي “النداهة الوحيدة الباقية من سلالة فانية، إن نادت أحدهم سليبي نداءها مسحورا، وأنها مقبرته قبل ان يغادر إلى قبره”.
والحكاية التي تداولها الناس أن تلك البلدة تموت كل مائة عام، تفنى حتى من الطير عدا البوم والغربان، تحترق كما يحترق الطوب في جوف القمينة، كانت القمينة سر المكان، ما دامت شغالة فالبلد حية، ولو توقفت فالفناء على رقاب العباد، لكن قصة حب يمكنها أن تعيد الحياة للبلدة!
لعنة الرسائل
ما سر تلك اللعنة؟ هل لأنها أرض قديمة سكنها الغجر ثم هجروها لما اختفى طفلهم الصغير فجأة وظلوا يبحثون عنه بلا أمل، فأخبرتهم أسراب البوم المعششة فوق الشجر ان الموت والفناء يتوعدهم في هذا المكان؟ أم هل لأن من سكنوا الأرض من بعدهم كانوا من المهمشين والعواطلية وكثير منهم متورط في مزالق الشهوة، ينتظر صفعة خطابات مجهولة ليتذكر ماضيه ولتحترق القرية عن بكرتها بالفتنة!
بين النور والنار
تسير الحكاية بين عالمين؛ نور الحب ونار الشهوة، ونحن البشر من طين وموعودين بكل منهما، فنستمع للراوي وهو يقول: “تكبره بشهور لكنه يكبرها الآن بعدد ضربات القلب”، “حام حولها كشمس، وسكنت في جواره كظل”، وهكذا كانت نبوءة القمينة التي يرثها عاشق غريب بقلب مشتعل وكان “موعود” هو الوارث لأسرارها والمحب الأبدي لبهجة..
ينحت الراوي أوصافه بدقة ورهافة فيقول عن موعود بعد تلقي إحدى الرسائل: “جسده ينتفض كأن قناصًا يتسلى به، يصوب إلى كل قطعة من جسده وحدها، حوّله إلى غربال ألم وأسى، ولا أثر لدماء”.
لغة الرسائل وحكايات الراوي عنها تميل لتغليب الجسد على الروح، النار على النور.. وعلى وقع الناي الحزين يمكنك أن تتلمس حكمة الأرض حين تمنح للمنتصر في الحرب حق توارث حكاياته، بينما حكمة المهزوم كسيرة! أو حين تجعل غبار الإشاعة أقوى من نار الحقيقة.
لكن ماذا عن حال البلدة بعد الرسائل: “خلت الشوارع على غير العادة كأنها صحراء البوم، كأننا في مأتم، وحده البط، يذهب إلى البحيرة وحده ويعود، وأصبحت الحياة بطيئة كأنها أتت في هذا اليوم بساقٍ وحيدة”.
الحشاش يعظ!
بدلا من أن يكون الجامع هو الملاذ الآمن لأهل القرية أصبح مشاركا في المأساة الحزينة، كان شيخ الجامع “هو الوحيد الذي يمشي في الطرقات كانه ظل لوط أو نوح، يدرك ان الخطر يبقبق في طنجرة سنتفجر بعد قليل، لكنه لا يستطيع أن ينصح أحدا”
على الجانب الآخر تبدو شخصية “مسعد” الذي يعتلى منبر المسجد ليخطب خطبة أبالسة لا تخلو من الحكم، هو لسان حال أهل البلدة، وهو شخصية متناقضة فيده اليمنى بيضاء على الجميع تساعدهم، والأخرى تقبض على حقيقته كحشاش يضرب ثلاثين حجرا كل ليل. كان مسعد حشاشا عتيدا يخطب وهو مسطول فعليًا، وكان هذا واضحا منذ نادى: أيها الناس، ثم راح يخبرهم بأن الميتين قد خرجوا والقيامة قامت، وينصحهم بعبادة الله وبالصلاة برعاية السيد المحافظ الذي لم يأت لإصلاح الأسفلت. وفي الخارج صوت رجلين يتشاجران هل “الإسلام هو الحل” أم “الحشيش”!
نار الشهوة
اختار وحيد الطويلة أن يكون الزمن في الرواية مبهمًا، لكنه صنع من الساعة الثانية عشرة صباحًا موعدا لافتا للفضيحة، أو “لنفخة الفتنة الأولى”، بما يعيدنا لقصة الخلق..
الخطابات الصفراء تثير الذعر، ثأر يأكله أحدهم باردا، وتدور الاتهامات حول صابر العربجي الذي سرق صندوق النذور من الجامع وسقط في الفاحشة مع حبيبته القديمة، وصباح المرأة الغوية لحماها والتي تدعي معرفتها الخارقة بالبواطن.. وكما نرى سكان البلدة في بئر الحرمان والجريمة سواء.
اعتاد أهل البلدة الرسائل أو أرادوا نسيانها، وملأت الشمس الفضاء، وتسربت الأغاني من أجهزة الراديو.. ووقف المعلم “علعول” الزمار، ليفك الناس عن همومهم، وهو حشاش متصوف يتمايل الناس معه وكأنهم في حلقة ذكر!
نبوءة الحب والحياة
“الحب له وجه غامض، وهذا هو سره، يمكن أن يحرق أي شيء، لكن له وجه كالضوء المفاجيء يفتح السكك في لحظة عتمة الروح”
حلم غريب يراود والد بهجة عن قيامة البلدة والنار التي ستسفح كل ما في طريقها.. فيسرع لتحذير الكل، ويفاجأ في “لحن أخير” بالحقائق تتكشف؛ فموعود هو الجاني، وهو الضحية، أحب بهجة وخاف أن تضيع فكوى الجميع بناره، وتطهرت يده التي وضعها عمدا في نار القمينة لتأكل سواد قلبه ويبقى نور حبه..
تلك كانت قمينة موعود وبهجة.. لكن قمينة الحياة الكبيرة يحدث فيها هذا كل يوم، والناس هي قوالب الطوب.. تجهزهم الحياة ليصيروا بشرا وبيوتا.. وقصة حب يمكن معها أن تولد البلدة من جديد!
