“اقرأ.. في البدء كان الكلمة” هو شعار الدورة الحالية لمعرض القاهرة الدولي للكتاب؛ والذي يعكس حثَّ الكتب السماوية على الاحتفاء بالكلمة؛ فبـ”كن” خُلق الكون، وبالكلمة قامت الحضارات ومنحت الآداب والفنون للعقل قوته، وللروح غذاءها، فأصبحت كل صفحة تقلبها – كما يقول جبران – هي خطوة نحو عوالم مجهولة تشكل هويتك.
حتى اليوم الثامن، لبى أكثر من 3 ملايين مصري نداء القراءة في معرض الكتاب، متناسين الغلاء والزحام.. ونتوقف في السطور التالية عند بعض المظاهر التي تميزت بها الدورة الـ56 والتي تستضيف سلطنة عمان ضيفًا للشرف، واختارت شخصيتي العالم الراحل د.أحمد مستجير رائد الهندسة الوراثية، والكاتبة رائدة المسرح القومي للطفل، فاطمة المعدول، ضمن نشاط ثقافي مميز شمل 600 فاعلية بحضور نجوم الفكر والدبلوماسية والإبداع.
أين تذهب الأسرة المتوسطة؟
مع ارتفاع أسعار الورق ومستلزمات الطباعة، قفزت أسعار الكتب بشكل كبير فصار الشائع لسعر كتاب متوسط الحجم نحو 250 إلى 400 جنيه، لذا يتوجه القاريء الأريب لأجنحة الكتب المخفضة في بداية جولته، والتي تشمل الهيئة العامة للكتاب وقصور الثقافة وسلاسلها الزاخرة بالفكر والتراث والأدب؛ إلى جانب سلاسل الطفل والناشئة والأدب بالإنجليزية. يفضل بعض القراء الأكثر تعمقًا جناح “القومي للترجمة” والذي يتيح تخفيضات هائلة خاصة للطلاب والباحثين.
تأتي بعد ذلك رحلة القراء لخيمة تقام للمرة الأولى باسم Big Bad Wolf أكبر معرض للكتب الأجنبية المخفضة، وتتيح سلاسل للكبار والناشئة ما بين الخيال العلمي والرعب والإثارة والرومانسية، وتتراوح الأسعار فيه – حسب المُعلن- من 25 جنيه لـ1500 جنيه، لكن الواقع هو شكوة الشباب الذين التقيناهم من ارتفاع أسعار الكتب داخل الجناح وغياب الكتب المخفضة.
في صالة “6” أو صالة التخفيضات سترى كتب معظم دور النشر لأعوام فائتة وبأسعار مخفضة بالفعل، لكن البطل يظل هو “سور الأزبكية” برائحة الورق الأصفر والأسعار الهينة على الجيوب، وستجد بين جنبات السور التفسير والفكر الديني.. روايات عالمية وعربية .. أعدادا قديمة من المختار والرسالة .. مجلات الديكور والمطبخ .. قواميس وكتب علمية.. لوحات مستشرقين، ودرر لا تقدر بثمن.
مهلًا أيها القاريء؛ الرحلة بالكاد بدأت ولم تنتهِ؛ وبالتأكيد لديك قائمة بتلك الدور التي أعلنت عن تخفيضات هائلة تصل 50 او 70% بصالات النشر المصرية والعربية، وبالفعل أجرت عديد من الدور تخفيضات على كتب العام الماضي ولأشهر الكتّاب.
في صالة “5” حيث جناح الطفل ستحظى بوجبة هائلة للطفل ولكن سعرها لا يزال بعيدا عن متناول الأسر المتوسطة، وقالت إحدى الأمهات: تباع قصص “هاري بوتر” الإنجليزية بـ400 جنيه وقصص اليافعين بمتوسط 200 جنيه، وهو ما يجعل الخيار الأمثل اختيار واحدة فقط لكل طفل. تتاح أيضا في الصالة ألعاب تنمية الذكاء وأنشطة مرح وحكي ورسم وعروض فنية وتعد تلك الأنشطة من أبرز إيجابيات جناح الطفل.
مفاهيم حديثة للنشر والبيع
تشهد الدورة الراهنة لمعرض الكتاب مشاركة منصّة “سماوي” السعودية، وقال “مازن” أحد عارضي الجناح أن المنصة وسيطة بين القراء والمؤلفين حول العالم، مع سهولة الحصول على الكتاب ورقيا بمجرد اختياره على المنصة، أو قراءته وسماعه إلكترونيا بباقات مختلفة، كما يتيح للمؤلفين نشر اعمالهم على نطاق دولي ، وهو جزء من مفهوم جديد يقوم على “الكتاب بالطلب”.
من التجارب اللافتة وخفيفة الظل هذا العام عرض الكتب في ماكينة تشبه الصراف الآلي، وقد أسماها المصريون “ثلاجة كتوبيا”، والتقط مشاهير المبدعين صورًا معها، وهي تجربة معروفة في العواصم العالمية لماكينات بيع الكتب ذاتيا داخل المطاعم والمطارات.
اعادة نشر تراث الإبداع
تعد الرواية هي المتصدر الاول في مبيعات معارض الكتب العالمية، وتزدهر هذا العام روايات كبار المبدعين في دور النشر المصرية العريقة ومنها “الشروق” و”المصرية اللبنانية” و”العين”، إلى جانب اهتمام الناشرين هذا العام بفن القصة؛ لكن من الاتجاهات الواضحة هي إعادة طباعة الأدب الكلاسيكي في محاولة لتعريف الجيل الجديد بهدير كتابات رواد السرد، تبنّت هذا المفهوم دور نشر منها “أزهى” والتي يمكنك بجولة واحدة فيها شراء كلاسيكيات عالمية مترجمة مثل “أنا كارنينا” و”1984″ أو عربية مثل “ماجدولين” للمنفلوطي و”النبي” لجبران و”على هامش السيرة” لطه حسين وروائع السحار ومحفوظ، وروائع معاصرة كأعمال الروائية د.لنا عبد الرحمن، وبتخفيضات كبرى تتيح لشباب القراء اقتناءها.
ومن الدور التي اهتمت بإعادة نشر روائع التراث الإبداع؛ دار “كتوبيا” والتي خصصت مشروعا للرواد ومنها قصص الرائدة الفلسطينية سميرة عزام “الظل الكبير” وكذلك روائع الروائيين الكبيرين محمد كامل وأحمد الشيخ.
وفي سياق نشر تراث الإبداع انفرد “بيت الحكمة” بمشروع ضخم لنشر تراث بورتريهات خيري شلبي بعنوان “أعيان مصر”، وتقديم الأعمال القصصية الكاملة للراحل أسامة أنور عكاشة تحت اسم “ظل لا يغيب”، وعلى النهج نشرت مؤسسة “غايا” روائع خيري شلبي النثرية ومنها “في وداع الأحباب”، وقدمت “ديوان” روائع يوسف السباعي ومنها “السقا مات”، وروائع احمد بهجت ومنها “بحار الحب عند الصوفية”، بعد أن طرحت روائع محفوظ، كما قدمت دار “تمهيد” أعمال ديسكتوفسكي وموراكامي ومحفوظ والعقاد وغيرهم من رواد الإبداع.
ازدهار الترجمة
هناك اتجاه لترجمة الأدب والتنمية البشرية لدى عشرات الناشرين هذا العام، وإقبال حقيقي من شباب القراء على الكتب المترجمة والتي تثري أفقهم وذائقتهم وتمنحهم تجارب ثقافية مختلفة، ومن بين أهم الدور التي تضطلع بهذا النشاط دار “صفصافة” و”العربي” و”مدارات” و”الكرمة” وتمتاز كتب تلك الدور بتقديم أعمال منتقاة بعناية تكشف المسكوت عنه في أهم قضايا الشرق الأوسط والكولونيالية، إلى جانب روائع الأدب الحائز على جوائز عالمية.
وفي مجال الكتب الشبابية تبرز دور نشر منها “عصير الكتب” و”دوّن” و”الرواق” و”لغة” بوجبة شيقة ومتنوعة من كتب تطوير الذات والروايات المثيرة سواء سلاسل بوليسية أو رعب أو إثارة، إلى جانب نشر روائع الأدب والتنمية البشرية لأجيال متنوعة من الكتّاب.
القضية الفلسطينية محور هام لكتابات معرض القاهرة
فلسطين في القلب
مع تنامي حرب الإبادة التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة، اتجهت العديد من الدور للنشر عن القضية الفلسطينية، كجزء من مؤازرة الشعب الفلسطيني بالكلمة، وتحدثنا لأحمد عبد الفتاح ناشر دار “مدارات” عن هذا التوجه وأكد أنهم هذا العام قدموا اعمالا هامة ومنها “كنيس الخراب.. الصهيونية والاستيطان والعمارة” تأليف المعماري المصري العالمي د.أحمد عبد العظيم، إلى جانب تقديم أعمالا هامة في ذات المشروع ومنها “أرض جوفاء” لإيال وايزمان، و”الجذور الاجتماعية للنكبة” وأعمال الراحل الكبير د.عبدالوهاب المسيري صاحب موسوعة “الصهيونية”.
وفي دار “كتوبيا” سنجد توجها واضحا للنشر عن فلسطين ومؤسس الدار أيمن حويرة صاحب “حرب التحرير”، كما قدمت الدار “السردية الفلسطينية” ويؤرخ للنكبة الفلسطينية منذ 1948 وحتى اليوم بقلم المبدعة الكبيرة نردين ابونبعة، ومجموعة قصصية باسم “فلسطين وقصص أخرى”.
ومن بين الدور التي ركزت على مواجهة الصهيونية، قدمت دار “تمهيد” والتي تشارك لأول مرة في المعرض عددا من الأعمال منها ترجمة “اليهود في تاريخ الحضارات” لغوستاف لوبون، و”كيف يفكر المحتل” لمنى مزروعة. أما دار “المحرر” فتبنت إحياء المقاومة عبر أعمال منها “برتقال واشواك” للكاتب الكبير د.ياسر ثابت و”يوم أكل الثور الأبيض” لإسلام صبري.من الدور صاحبة المشروعات المواجهة للصهيونية ايضا دار “الرواق” ويعد كتاب رامي رأفت “تهويد الغرب” من أبرز الكتب في هذا الاتجاه.
ولو اتجهنا للصالة العربية سنرى دررا أدبية تحيي مقاومة فلسطين، لدينا دار “الآداب” العريقة مثلا والتي أخرجت رائعتي باسم خندقي الأسير الفلسطيني وجديده هذا العام “سادن المحرقة.. قناع بلون السماء2″، وهي الدار التي قدمت روائع إلياس خوري صاحب “باب الشمس” وسنرى له عملا هاما باسم “النكبة مستمرة”، كما نشرت اليازردي ديوان الشاعر الفلسطيني عبد الله عيسى “سماء غزة.. تلال جنين” الفائز بجائزة القدس، ونشرت الدار العربية للعلوم روائع الأديب الفلسطيني ابراهيم نصر الله وأحدث اعماله “مصائد الريح” وبنصف ثمنها!.
يضاف لما سبق اتجاه عديد من الناشرين لنشر كلاسيكيات أدب المقاومة الفلسطيني بأسعار مخفضة، فرأينا روائع مريد البرغوثي ورضوى، ورأينا إعادة “أزهى” نشر روائع غسان كنفاني، وقدمت دار “سديم” نهجا مشابها لأعمال منها “رجال في الشمس” و”عائد إلى حيفا”، وطرحت دار “الخان” خصما كبيرا على روائع الأديب صاحب المقولة الشهيرة: تسقط الأجساد لا الفكرة !
