
ظل “السيد س” عاطلا عن عمله، حتى هاتفه صديقه ذات صباح ليخبره بوظيفة منسق زهور في شركة كبيرة براتب تصعب مقاومته. كل دوره الآن أن ينسق الزهور ويحكي عنها للجمهور. بدا الأمر مربكًا للرجل، هل يفرح أم يحزن لأنه لا يعرف ماذا سيقول؟ فجأة تلوّن خياله بشتى ألوان الزهور وشذاها العطر ونصائح البستاني القديمة، كما تذكر التهامه 20 زهرة بيضاء في طفولته كي تصالحه أمه!
قد تتغير حياة أي منّا إن اقتفى أثر هذا الرجل المحظوظ؛ فالخيال صوتٌ داخلي، عرضٌ سينمائي لا يتجاوز حدود غرفة الذهن. ودورنا هو تحرير أخيلتنا من سجنها لتحلق في سماء العالم. هذه العملية تحتاج لصياد ماهر في ترقب فريسته ومتابعتها.
هكذا ينطلق الأديب والفنان التشكيلي وليد علاء الدين، في كتابه الأحدث عن دار “الشروق” باسم “لغز السيد س.. فن اقتناص الخيال في الكتابة”. ومؤلف الكتاب هو صاحب روايات ذائعة الصيت ومنها: “كيميا” و”ابن القبطية” و”الغميضة”، وحازت مسرحيته “العصفور” على جائزة الشارقة للإبداع العربي، كما حصلت روايته “72 ساعة عفو” على جائزة ساويرس.
“الاسعد” ينقذ قريته
تبدأ رحلتنا في هذا الكتاب بقصة “الأسعد بن المحظوظ” الذي نجا أبيه وحده من مصير مشؤوم في قرية من الصم والبكم، اختارت العزلة القهرية ولغة الإشارة التي لا يعرفها أحد، فكان هذا المحظوظ وولده الأسعد حالة استثنائية، وبعد أسفاره قرر الأسعد أن يروي لقريته البكماء كل ما شاهد، وليكن ما يكون! هنا تكمن رمزية الكتابة بحياة البشر والتي تحررهم من عزلتهم ولعنة النسيان.
لكن أيهما أسبق، الكتابة أم الخيال؟ هنا يعتبر الكاتب أن “الخيال بيضة الكتابة الملقّحة التي تحتاج إلى عناية خاصة ليبدأ الجنين في التخلق”. والكتابة أيضا بيضة الخيال، يضعها ويملأ العشّ بأخواتها فتخصب تربته وتجري أنهاره وتثمر جنانه.
اقرأ أيضا: فنجان قهوة بـ7 جنيه.. الأدب يواجه التشظي
لماذا نكتب؟
الكتابة قهريةٌ. هكذا صاغ الروائي الامريكي ديفيد بالداتشي إجابته عن سؤال “لماذا نكتب؟” ضمن مجموعة من الكتاب البارزين في المشهد الأدبي المعاصر. ببساطة يرى بالداتشي أن الكتابة “مخدّر” يجعلك راضيًا عن كل شيء! ويتفق أغلب الكتاب أنهم لم يختاروا الكتابة بقدر اختيارها هي لهم. تقول جنيفر إيغان أن شعورًا بالفقد يجتاحها حين لا تكتب، فيما تكتب ميغ والتيزر لتتحرر من القلق. أما جيمس فري فيصيح: إذا لم أكتب سأجنّ!.
من الجميل أن يذهب بعضهم للحاجة للمال بنظرة عملية، أو لما هو أبعد حين يقول أحدهم: أكتب لأشرح نفسي لنفسي.أما الكاتبة التشيلية الشهيرة إيزابيل الليندي فهي تكتب كي تجعل قارئها “يفهم ويتعاطف”. فيما تذهب ماري كار لحاجتها الملحة لترك بصمة في الحياة.
محاكاة الخيال
جاءت لفظة الخيال من الحركة والتلوّن. وهكذا وكما يخبرنا الفيلسوف باشلار فإن الخيال هو صور جديدة بأشكال غير متوقعة من اتحاد شظايا إدراكنا.
لقد سعى الإنسان منذ القدم لمحاكاة الأصوات، وهي ظاهرة معروفة بـ”الأونوماتوبيا”؛ فصارت لدينا أصوات القهقهة للضحك، والخرير للماء، وهكذا تشكلت الأصوات في كل اللغات. والآن دورك ككاتب هو الإصغاء الجيد لخيالك مع تخصيبه لينطلق في أبهى ثوب.
القراءة .. للحياة
أوّل ما يخصّب الخيال والإدراك هو القراءة الحقيقية التي نفكك بها ما نقرأه لنفهم ونشعر لا لنعزز وجهات نظرنا المسبقة كما يفعل أصحاب “القراءة الضريرة” الذين تزيدهم الكتب هشاشة.
لهذا كان عميد الأدب العربي يقول أن وسائل الإعلام لا تغني الكاتب عن القراءة من الكتب؛ لما فيها من تبسيط وتجزئة ومراعاة لإدراك عامة الجمهور ولاعتبارات الرقيب. والقراءة مران مستمر ومنهج تفكير وبهذا تصبح مدخلا لصنع العقل. ولا يكون المثقف مثقفا بغير القراءة الثرية التي تحوله لشخص قادر على تحليل مسائل الحياة بطريقة تجعل حياتنا أفضل.
الطريق لكتابة الأدب
“الأدب مثل الموسيقى، كائنات مكوّنة نم أحرف هدفها اقتناص الأفكار والصور من الخيال”
ويقول ابن المقفع في “الأدب الصغير”: وليس غذاء الطعام بأسرع في نبات الجسد من غذاء الأدب في نبات العقل.
ربما يحيلنا هذا التصور للعبة تسهل عملية تخيل تجهيز القطعة الأدبية، والتي تبدأ من تفاعل مخزون الكاتب من معارف واطلاع في خلطة، ثم طهوها باحترافية ثم تأتي عملية تقديم الوجبة بما يضمن تذوّق الجمهور ولا يتعارض مع جودة الفن وأصالته.
ميزة الكتابة الأدبية عن غيرها أنها تنطلق في إطار تحيّز واع تختمر فيه الحقائق في ثوب الفن النابع من خياله الخاص وبأسلوبه الخاص؛ وهنا تستطيع ان تسرّب المعرفة لوعي قارئك وأن تلهمه طرائق للحياة وأن تدعوه لمشاركتك رأيك!
وعقدة الكتابة الأدبية أنها مرتبطة بذوق القراء؛ ونعلم أن لدينا طائفة واسعة للغاية؛ بين من يحب البساطة المفرطة ومن أصبح مؤهلا للسرد الأكثر جزالة وعمقًا. و”كل فولة لها كيال” كما يقول المثل الشعبي. لهذا يحسن بالأديب الحقيقي ألا يكتب لإرضاء القاريء وإنما يترك للكتابة بروحه وأسلوبه أن تختار قارئها.
يذكرنا الأديب هنا بأن عالم الحكاية ظل منذ الأجداد هو الوسيلة الأنسب لنقل المعارف والأخبار. فقراءة الرواية كما مشاهدة الأفلام هي قرار بمشاهدة الحياة الحقيقية الممزوجة بالتأملات.والأدب هو الطبيخ المعنوي للحياة والتي تحول وقائعها لشيء أكثر احتمالا. بالتالي فالتعرض للأدب هو “تسلية الجاد” وليس الفارغ!
نعم وإن كان ثمة شرط وحيد للأدب فهو تحقيق “المتعة”. والمتعة عملية تشتمل الحب والرغبة والتعلم. ولذا يتعلم الأطفال بينما يلعبون ما لا يتعلمونه في أي وقت آخر. والمتعة التي تحصل لنا حين نقرأ رواية هي متعة لا تعني غياب المعاناة من حياتنا وإنما فتح نوافذ جديدة للأمل.
هل ننتظر الوحي؟
“الكتابة الأولى مجرد تجسيد للقلق بصورة قابلة للتداول الجمالي”
كان الشاعر الهندي الأعظم “طاغور” يقول: تمر الأفكار بذهني كأسراب البط في السماء، إنني أسمع رفيف أجنحتها!
لكن ليس حقيقيا أن كل كاتب عليه أن يكون محفوظ أو طاغور كي يبدع، وهذا ما يسميه المؤلف هنا بـ”سطوة النموذج” التي يجب كسر سجنها؛ صحيح أن الكتابة ابنة شرعية للإلهام؛ لكنه ليس شرطا وحيدا لانطلاقها.
استطاع “موراكامي” الأديب ذائع الصيت أن يحقق عزلته مع رياضة الركض المرهقة، لكن روايته الأولى “أسمع الريح تغني” كانت قرارا مبدئيا بتحرير خياله الفريد تجاه البشر والحياة.
يحتاج الكاتب لأن يبدأ الكتابة عما يعرفه حقا، لكن بعد صقله بالتأمل والمعرفة. بعض الكتاب ومنهم إيشيجورو مثلا يرى في ذلك غباء وكبح للخيال، ولهذا فالأدق ان تقترب مما تريد الكتابة عنه بدرجة تجعلك تعرفه كما لو كنت قد عشته! وأن تفعل دون أن تجافي مادة إنتاجك الأولى وهي الخيال!
ولا غنى كي يستمر الكاتب عن المشروع الذي يتخطى انتظار الوحي الذي يهبط عليه. وعودة لموراكامي حين قال: إذا أردت أن تكتب فعليك أن تقاوم رغبتك في عدم الكتابة!
هذا ما أثبتته تجربة الكاتب وليد علاء الدين الشخصية؛ فقد أنجز مشروعاته المفتوحة حين تخلص من عقدة “انتظار الوحي”، وأخذ يشرع فورًا في تحرير أفكاره وخياله وصقلها ومشاركتها.
وبخصوص عملية الصقل فنحن إزاء الأدب نتحدث عن “ملكة” تبدأ بالموهبة ولا تنتهي عندها، لحاجتها الدائمة للتخصيب بالقراءة والمشاهدة. لقد استطاع تشيخوف أن يبدع قصصه الأولى بفضل استمراره في الكتابة باسم مستعار! أما عن اللغة فهي اختبار صعب، وقد اجتازه من قبل محفوظ الذي قدم الفصحى “ابنة البلد” في الوقت نفسه، وهذا يحتاج لمران طويل.
تحتاج في رحلتك لكتابة رواية أو قصة أن تضع خطة بالتأكيد، دون أن تظن أن كل شيء يسير بكل صارم وفق ما خططت، فخيالك يفاجئك بلا هوادة، وهذا ما حدث مع الكاتب نفسه حين وضع أكثر من نهاية لبطل “ابن القبطية” بعد أن اختار أن نستمع جميعا لأنينه في بئر خيالاته!
يخلص الكتاب بين أيدينا إلى كون الكتابة الأدبية ليست موهبة، إنما ملكة، تمتلكها، وتتملكك؛ فتدير حواسك ومعارفك من أجل التعبير من خلالها، عبر اقتناص مخزونك الخاص من الخيال. ودورك هو تحويل هذا القلق إلى رحلة استثنائية لفك شفرة الإبداع. وأن تتحرر من سطوة “الكمال” لتنتج بلا خوف.
اقرأ أيضا: سمير الفيل: أكتب وعيني على الطبقات الفقيرة
