ثقافة وأدبسليدر

أحلام بائع كتب على الرصيف!

شمس الصباح تخترق زحمة المارة وضجيج السيارات. بجوار محال الأطعمة والملابس يقف عم جمال على فرشة ممتدة على الرصيف المطل على دار القضاء العالي بوسط القاهرة. يرصّ كتبه التي تتنفس رائحة الزمن في السياسة والتاريخ والأدب والمنوعات. يرمقه المارة بنصف عين، وبعضهم يقترب لتقليب الصفحات قبل ان يتخذ قراره باقتناء أي منهم لقاء جنيهات قليلة يقبلها العم راضيًا.

قدم العم جمال حسين من أسوان، ندهته القاهرة قبل 40 عامًا، واختارته مهنة بيع الكتب التي ورثها عن أبيه، قبل أن يختارها. لا يزال العم جمال يسافر كل شهر لجمع كتبه من محافظات بعيدة ومنها المنصورة وطنطا، ينتقي بعين جواهرجي يعرف ما يريده زبائنه المستديمين والذين يعرفونه ويعرفهم عن قرب. يعود “جمال” ليفرز غنيمته يوم الجمعة، قبل أن يتفنن في عرضها على الرصيف أعلى محطة “جمال عبد الناصر”، وإلى جانبه يقف العم السيد أحد أقدم باعة الكتب في المنطقة.

مع ارتفاع أسعار الكتب الجديدة والتي تأثرت بدورها بتكلفة الورق والطباعة، أصبحت كتب الرصيف ملاذا للباحثين عن الزاد الروحي والمعرفي بين صفحات الكتب. هي زاد الطلاب والباحثين أيضًا وكنزهم الذي لا ينضب لاكتشاف عناوين جديدة تثري دراستهم. هذه المنطقة تحديدا تعج بالصحفيين والقانونيين كونها تضم على بعد أمتار قليلة من باعة الكتب؛ نقابتي الصحفيين والمحامين، ولذا تزدهر كتب أعمدة الصحافة والقانون في مصر في تلك المنطقة. وهكذا يأتي لعم جمال عشرات الصحفيين الشغوفين بالقراءة والذين يتفحص أحدهم الكتب بفراسة ودربة حتى يقتنص مبتغاه.

المطبخ يغزو روايات عالمية بوصفاته

مصر تقرأ

عادة تتضارب التقارير حول معدلات القرائية في العالم؛ فلو تأملنا احدث الدراسات والصادرة عن “وورلد ببيوليشن ريفيو” سنجدها تشير إلى أن الولايات المتحدة الامريكية تتصدر اكثر الشعوب قراءة في العالم، تليها الهند والمملكة المتحدة وفرنسا وإيطاليا. وفي العالم العربي جاءت مصر في الصدارة من حيث معدلات القراءة السنوية، يليها سوريا ولبنان والبحرين والأردن. وجاء عدد الكتب التي يقرأها المصري خلال العام 5.4 كتابا في المتوسط، ويبلغ عدد ساعات القراءة سنويا 121 ساعة، ويشير التقرير إلى أن مصر تحتل المرتبة 39 عالميا رغم صدارتها عربيا، في حين يشير الجهاز المركزي للإحصاء في دراسته قبل عامين مثلا لاحتلال مصر المرتبة الخامسة بين دول العالم الأكثر قراءة بمعدل 7 ساعات ونصف أسبوعيا، وفق بيانات NOP World Culture Index بمناسبة اليوم العالمي للكتاب.

قبل عقود، كانت مصر تشهد مبادرة وطنية هامة وهي “القراءة للجميع” والتي وزعت كتبا بأسعار زهيدة لسنوات عدة لتشجيع القراءة. ولا يزال المثقفون يحلمون بيوم يعود فيه هذا المهرجان للنور، وغيره من المبادرات التي عرفها المصريون ومنها “كتابي” لحلمي مراد والذي ترجم روائع الأدب العالمي، وتجربة “كتاب الجيب” وسلاسلها المحببة للناشئين.

يظلّ رصيف الكتب بوابة أولى لعالم القراءة، خاصة لمن لا يمكنهم شراء كتب جديدة. وهو سوق ثقافي غير رسمي بالتوازي مع المؤسسات الرسمية؛ وقد أظهرت الحكومة المصرية اعتناء كبيرا بسور الأزبكية في حي العتبة مؤخرًا والذي يعد ملاذ الباحثين عن الروائع النفيسة من عشاق القراءة والطلاب، على حد سواء. يعيب هذا السوق في أحيان كثيرة الترويج للنسخ “المضروبة” أو المقرصنة من الأعمال الجديدة الأصلية والتي تجري طباعتها بشكل غير شرعي وفي إهدار تام لحقوق المؤلف والناشر الفكرية، وهي ازمة لا تزال تبحث عن حلول جادة.

كتب الرصيف

ويرى المحللون أهمية تأمل ما يقرأه الشباب وتفضيلاتهم والتي تميل عادة للكتب الخفيفة والتنمية البشرية والكتب الدينية والروايات، وتكمن أزمة بعض المضامين في لجوئها لعالم السحر والشعوذة والخرافات والرعب لجذب شريحة أوسع من القراء، وهو ما يبني قاعدة واهية من قراء العالم السفلي كما يحلو للبعض تسميتهم. اتجهت ذائقة شريحة كبيرة من القراء الشباب لكتب الرقائق الدينية فأصبحت أعلى رواجا ومنها “لأنك الله” لعلي الفيفي، إلى جانب كتب كلاسيكية لمصطفى محمود والشيخ الغزالي والشعراوي، تصطف إلى جانب كتب التفسير وقصص الأنبياء. هناك من اتجه لكتب التنمية البشرية ويعد كتاب “العادات السبع الأكثر فاعلية” بين أهم تلك الكتب الرائجة عبر سنوات متواصلة، إلى جانب كلاسيكيات إبراهيم الفقي.

يقول العم جمال: أحب القراءة ولي ذوق في الكتب ولدي الكثير من الكنوز لأبيعها في السياسة والدين والقانون والأدب؛ لكن أغلب الشباب اليوم يميلون للروايات والقصص. لم أتورط في تزوير الكتب وهو شيء يخالف ضميري.

أما عن كيف يقضي جمالٌ يومه، فيقول: أنصب فرشتي بشكل دائم، ورغم التعامل الأمني الإنساني معنا، لكننا نعلم أن “للطريق حق” ولابد أن نراعيه وألا نجور على حق المارة، وبالتالي نتفهم تعليماتهم المستمرة لنا.

ترك العم جمال سور الأزبكية منذ تأسيس مترو الأنفاق في العتبة وتضاؤل المساحة المخصصة لبيع الكتب مقارنة بما كانت عليه من قبل؛ ورأى أن منطقة الإسعاف ستكون وجهته للقاء زبائن أكثر تنوعًا.أما أمنيته فيلخصها في كلمتين: أريد فقط أن أبقى في المكان الذي أحب ومع مهنتي التي خلقت لأجلها “بيع الكتب”. أحلم بأن تعود حركة البيع بدلا من حالة الركود التي نعيشها والتي أجبرت قراء كثيرين على البحث عن لقمة العيش وليس الكتاب.

مع غروب الشمس، يجمع العم “جمال” معظم كتبه، يفرز ما باعه وما سيعود معه للمنزل، محملًا بآمال جديدة لشروق اليوم التالي.

أدب محفوظ مرآة للقاهرة .. شهادات العمالقة

📎 رابط مختصر للمقال: https://www.baladnews.com/?p=8696

موضوعات ذات صلة

الكيميائي الذي يتحكم في خوفك “النورأدرينالين”

أيمن مصطفى

وادي الطفشان .. وهل تبيع الأمم حضارتها أيها الكاهن؟

المحرر

د. أنور حلمي: الروبوت الجراحي طفرة طبية هائلة

المحرر

مجاناً دخول قصر الأمير محمد علي بالمنيل

المحرر

الشباب والرياضة تعلق على بيان النيابة بشأن أرض الزمالك

محمود المهدي

بيراميدز يدعم الفراعنة بمروان حمدي

محمد عطا