ثقافة وأدب

الزلوعي: شجرة الميلاد لها جذورعميقة في مخيلة البشر

لا يبدأ عامٌ جديد إلا وتزدان بيوت الملايين بشجرة الصنوبر المعروفة بـ”الميلاد”، تنثر الدفء والنور وعلى العتبات المغطاة بالثلوج تحمل الحلوى والفواكه الصغيرة التي ترمز للخصب والحياة.. ورغم ارتباط الشجرة بأيقونات العقيدة المسيحية ومنها النجمة التي تعلوها رمز الملاك الذي ظهر هاديا للمسيح، أو الكرات الحمراء رمزًا لدمائه؛ لكنها بمرور الوقت أصبح تتجاوز ذلك ولتصبح ايقونة عالمية لمولد عام جديد ينتظر الناس أن يصبح أكثر سلامًا.. فما حكاية شجرة الميلاد وهل عرفها الفراعنة بالفعل؟ هذا ما يجيبنا عنه د.أحمد الزلوعي، الباحث في التراث الشعبي والقاص المصري.

كيف كانت شجرة الميلاد في تاريخ البشرية؟

مثل اكتشاف الزراعة ثورة نوعية في تاريخ الإنسان حيث تمكن من توفير طعامه ومن ثم الاستقرار في قرى بعد عصور طويلة من الترحال سعيا وراء الغذاء، تبلورت نظرة تقديس الخصب والنبات منذ تلك الفترة التي تعود الى 8000 سنة قبل الميلاد.

تمثل شجرة الميلاد رمزا لكل معاني الخصب و النماء والحياة وهو ما يتماشى مع احتفاء المعتقدات القديمة من تخصيص آلهة للخصب والنبات والتكاثر. وربما تكرست رمزية الشجرة بشكل أكبر لاحقا نظرا لشكلها الهندسي الصاعد من الأرض متجها نحو السماء وكأنها تمثل رابطًا بين الأرض والسماء وهو ذات المنطلق الذي أنتج الزاقورات والأبراج فى المعابد القديمة والتي تحولت لاحقًا إلى أبراج كنائس ومآذن مساجد وكذلك أنتجت فكرة القرب من السماء تقديس المرتفعات والجبال. 

                       د.أحمد الزلوعي 

وماذا عن الحضارات القديمة.. هل عرفت قداسة الأشجار؟

 صوّر المعتقد المصري القديم العالم الآخر الذي تذهب إليه الأرواح الطيبة بعد الموت على شكل حقول وحدائق سمّاها “حقول اليارو” وقد وجدت رسوم للشجرة في آثار مصرية كثيرة كرمزٍ مقدسٍ، كما أن المعبود الشعبي الشهير عند المصري القديم، “أوزيريس”، يرتبط بالخضرة و الزرع ويرسم دائما باللون الأخضر. وقد روت أحد فصول قصته أن تابوته ظل سابحًا فى البحر حتى استقر في جذع شجرةٍ عظيمةٍ فى جبيل بلبنان إلى أن عثرت عليه زوجته وأعادته إلى مصر. 

أما عند الآشوريين؛ فقد كان للشجرة مكانة كبيرة مقدسة و رسمت شجرة الحياة محروسة بآلهة وأنصاف آلهة، بحسب معتقداتهم.

ولعل مكانة شجرة الحياة عند الآشوريين موروثة عن ملحمة “جلجامش” الشهيرة والتي سعى فيها البطل جلجامش إلى نيل الخلود عن طريق الأكل من نبتةٍ معينةٍ لكنه لم يستطع وهو ما تبلور لاحقًا فى “سفر التكوين” في ربط الشجرة التى أكل منها آدم أبو البشرية بكونها شجرة خلود أو شجرة معرفة. 

لاحقًا وسّع اليهود في أدبياتهم قراءات حول شجرة الحياة وأضافوا إليها معانٍ باطنية حيث صارت تمثل العالم تارة و تمثل الحكمة تارةً وتمثل التوراة ذاتها.

وهل كانت للأشجار خصوصية عند العربي القديم؟

فى معتقدات العرب قبل الإسلام قدست الأشجار في مناطق عدة من الجزيرة العربية مثل الشجرة التي أطلق عليها ذات أنواط كما كان في حرم المعبودة العزي  ثلاث شجرات، كما ارتبطت المعبودة الشهيرة “اللات” بسنابل القمح و غيرها من الرموز النباتية. وقد صورت منحوتاتها على ذلك في معاقلها التاريخية في الشمال فى بلاد الأنباط ومملكة تدمر. 

ولأن الأصل في تقديس الأشجار مرتبطٌ بالخصب والحياة؛ فقد شاع ذلك في عموم حضارات العالم حتى البعيدة عن قلب العالم القديم كما هو الحال مع شجرة الاستنارة التي تقدست ببلوغ بوذا درجة الاستنارة وهو جالس  تحتها بعد رحلات تأمل طويلة. 

   

                           الملكة فيكتوريا وشجرة الكريسماس

متى ظهرت شجرة الكريسماس في اوروبا؟

تعد شجرة عيد الميلاد أشهر رمزيات شجرة الحياة الباقية حتى اليوم، وهي شجرة صنوبر مخروطية الشكل تعود إلى انواع منتشرة عند الشعوب الجرمانية شمال أوروبا.

وقد ظهرت في أوائل القرن السادس عشر انطلاقًا من شمال أوروبا ومرتبطة باحتفالات ميلاد المسيح. ورغم أن بعض القطاعات المسيحية عارضتها فى البداية على أنها دخيلة على التقاليد الدينية المسيحية إلا أنها انتشرت موسعًا وخاصة بعد كثرة أعداد المهاجرين الألمان الى أمريكا حاملين عاداتهم وثقافتهم. 

في  عهد القديس بونيفاس (634 – 709) والذي أرسل بعثة تبشيرية لألمانيا، تحولت رموز الشجرة للمسيحية، وأضيفت إليها نجمة بيت لحم التي هدت المجوس الثلاثة، كما اعتقدوا، ولكن الامر تحول لعادة اجتماعية مع القرن الخامس عشر، حيث انتقلت إلى فرنسا وفيها أُدخلت الزينة إليها بشرائط حمراء وتفاح أحمر وشموع، قبل ان يحتفي ملوك اوروبا بشجرة الميلاد ومنهم فيكتوريا التي تجسد الصور فرحتها والعائلة المالكة البريطانية حول شجرة الميلاد. 

   

               لوحة شجرة الحياة بقصر هشام بن عبد الملك

هل يحتفي تراث المسلمين برمزية شجرة الحياة؟

بالطبع! فالشعوب تتفاعل مع الرمزيات الدينية بلا انقطاع، وشجرة الميلاد دخلت الى صلب الموروث الفولكلوري من الثقافة الأوروبية الشمالية حيث الاشجار الاسكندنافية المكللة بالثلوج وانتشرت عالميا لتصبح رمزا لصيقا للاحتفالات بعيد ميلاد المسيح و بداية العام الجديد. ونحن المسلمون لدينا رمزية هامة مقدسة للشجرة المحرمة التي أكل منها ابو البشرية عليه السلام في الجنة، وهي مذكورة في القرآن، كما أن لدينا حضور فاعل لقداسة أشجار بعينها منها تلك الشجرة المباركة في دير سانت كاترين وفي موقع قريب من تجلى الرب سبحانه لموسى عليه السلام في طور سيناء، وظلت رمزية الشجرة لدينا كونية ومرتبطة بالحياة وصولا لسدرة المنتهى عند عرش الرحمن جلّ جلاله وهو من التجليات الكبرى لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حين دنا واقترب وشاهد من آيات ربه الكبرى ، لهذا نرى شجرة الحياة في كثير من لوحات المسلمين واهمها لوحة فسيفساء بقصر هشام بن عبد الملك الاموي في أريحا، تحمل رمزية الحياة والخصب.

📎 رابط مختصر للمقال: https://www.baladnews.com/?p=4628

موضوعات ذات صلة

جامعة المنصورة تمنح حماد الرمحي الدكتوراه في التحول الرقمي في الإعلام

المحرر

لغة الكواكب البعيدة في كتاب “نجمك العاشق

المحرر

حمدي السطوحي: الخط العربي فن يعزز الهوية

المحرر

السيناريست مجدي صابر: التواصل مع المجتمع أساس كتاباتي

المحرر

حقوق الإنسان تهيمن على لجان الأعلى للثقافة في 7 ندوات

المحرر

د. كرمة سامي: أثر رضوى عاشور مستمر في ذكرى رحيلها

المحرر