
“أنا البحر في أحشائه الدر كامنٌ.. فهل سألوا الغواص عن صدفاتي؟
نتذكر جميعًا هذا البيت للشاعر حافظ إبراهيم والذي يأتينا اليوم بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية، وهو اليوم الذي أقرته منظمة اليونيسكو منذ عام 2012 احتفاءً بواحدة من أقدم اللغات السامية وأكثرها انتشارا؛ حيث يستخدمها أكثر من 450 مليون شخص، كما تعد جسرا للحضارة العربية والتي أشرقت شمسها على العالم بكنوز العلم والأدب والحكمة والفنون.
حفظت اللغة العربية تراث الأمم جميعا؛ لأن اللغة اليونانية نقلت للعربية بفعل الترجمة ثم عادت الأجيال الجديدة لتقرأ العربية لتتعرف على تراثها العلمي المندثر.
في عام 1973 اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة، اللغة العربية بوصفها اللغة السادسة للمنظمة، جنبًا إلى جنب مع الإنجليزية والإسبانية والفرنسية والروسية والصينية، وما يشمله ذلك من برامج سنوية لنشر الوعي بجماليات اللغة والخط والثقافة العربية حول العالم.
لا نزال نستعيد كلمات الشاعر الراحل فاروق شوشة صاحب برنامج “لغتنا الجميلة” والذي انطلق عبر الإذاعة المصرية منذ 1967 وصدح بقصائد الشعراء عبر العصور، وقد ظل شوشة يردد: لغتنا ليست مجرد وسيلة للتعبير، بل هي كائن حي، نحيا به ويحيا بنا”. والعربية هي ذاكرة الأمة فلو ضاعت ضاق الطريق.
تحتل اللغة العربية منزلة مقدسة عند المسلمين بوصفها لغة “القرآن الكريم”، كما أنها لغة الشعائر الإسلامية وأهمها الصلاة. والعربية أيضا هي لغة الشعائر الدينية في كثير من الكنائس المسيحية في الوطن العربي.
اقرأ أيضًا: “لغز السيد س”.. أو كيف يحلق خيالك خارج الأسوار؟
جذور بعيدة
نشأت اللغة العربية الفصيحة في شمالي الجزيرة العربية. ويرجع أصلها إلى العربية الشمالية القديمة التي كان يتكلم بها العدنانيون. وهي لغة تختلف في كثير من مكوناتها وأساليبها وأصواتها عن العربية الجنوبية القديمة، التي نشأت في جنوبي الجزيرة وعرفت قديما باللغة الحميرية، وكان يتكلم بها القحطانيون، حسبما يشير أحمد حسن الزيات في “تاريخ الادب العربي”.
ساهم الموطن الجغرافي على تمتع العربية بالاستقلال وقلت من ثم نسبة احتكاكها وتأثرها بجاراتها، وهي: اللغة الفارسية من جهة الشرق، واللغة الآرامية من الشمال، واللغة الحبشية من الجنوب. ولذا احتفظت اللغة العربية بأكبر قدر من مقومات اللاسن السامي الأول.(ينقل الأب رفائيل نخلة في الدراسة ذاتها أن نسبة ما دخل للعربية من ألفاظ دخيلة 2.5% فيما دخل للفرنسية 55% من ألفاظها(
تنتمي اللغة العربية طبقًا لتصنيف علماء اللغة المحدثين إلى عائلة اللغات السامية، وقد أطلق هذا الوصف العالم الألماني شلوتزر، في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، وقصد به أن يكون تسمية مشتركة للغات الشعوب الآرامية، والفينيقية، والعبرية، والعربية، واليمنية، والبابلية الآشورية، وما انحدر منها بعد أن ثبت ما بين هذه اللغات من صلات قرابة وأوجه تشابه في أصواتها وصرفها ومعجمها.
اعتراف المستشرقين
يرى كثير من المستشرقين أن العربية هي أمُّ اللغات؛ فشجرة اللغة العربية بجذورها الضاربة في عمق التاريخ وفروعها المثمرة وأسرارها وعبقرية اشتقاقتها ونظمها الصرفية والنحوية والبلاغية وبقائها أجيال بعيدة بنفس المبنى والمعنى، وإيقاعها المنضبط صوتا وكتابة وجرسًا، تعبيرها المتنوع الدقيق عن كل شيء، ومنجزها الهائل بنحو 12 مليون كلمة، و16 ألف جذرٍ لغوي، لم تتغير أو تندثر عبر العصور.
المفكر “العقاد” في “اللغة الشاعرة” اعتبر أن اللغة العربية تمتاز عن سائر اللغات بحروف تفي بكافة المخارج الصوتية وتنفرد بحروف لا نجدها في أبجدية سواها كالذال والضاد والظاء.وهي كذلك لغة ثرية بمفرداتها الفصيحة الصريحة التي تحمل بداخلها موسيقى خفية، فنجد أن الشعر العربي (ديوان العرب وتاريخ أحوالهم) المنظوم من تلك المفردات، منفرد باجتماع القافية والإيقاع والأوزان القياسية في آنٍ واحد. كما تتميز العربية بوضوح أزمنتها وعدم اللبس فيها.
كانت المستشرقة زيفر هونكة تقول: “كيف يستطيع الإنسان أن يقاوم جمال هذه اللغة ومنطقها السليم وسحرها الفريد”.
مستشرق آخر وهو بروكلمان رأى أن اللغة العربية تفترق عن غيرها (من اللغات السامية) في احتفاظها الكامل بالأصوات الأصلية الغنية، على الأخص بأصوات الحلق وأصوات الصفير المختلفة، كما أنها تفترق عنها كذلك في احتفاظها التام بالحركات القديمة، ثم إن طريقة بناء الصيغ في السامية الأولى توجد في العربية في أرقى مراحل تطورها، وأيد العالمان “نيكلسون واوليري هذا الرأي مؤكدين أن اللغة العربية هي أصفى اللغات السامية، وأقربها إلى النبع الأول، ولهذا صمدت اللغة العربية وبادت سائر اللغات إلا من مجموعات قليلة تسعى للتمسك منها ومنها الآرامية والسريانية في سوريا.
كما أبان المستشرق لامانس في كتابه “ملاحظات على الألفاظ الفرنسية المشتقة من العربية” ما يربو على سبعمائة كلمة عربية دخلت اللغة الفرنسية. وقدم الأستاذ تيلور بحثًا ذاكرًا فيه ما يزيد على ألف كلمة عربية في الطب والكيمياء والفلك والبيولوجيا والجراحة دخلت اللغة الإنجليزية.
لذا يقول الفيلسوف الفرنسي ارنست رينان في كتابه “تاريخ اللغات السامية”: “إن انتشار اللغة العربية ليعتبر من أغرب ما وقع في تاريخ البشر, كما يعتبر من أصعب الأمور التي استعصى حلها؛ فقد كانت هذه اللغة غير معروفة بادئ ذي بدء, فبدت فجأة على غاية الكمال سلسة أية سلاسة، غنية أي غنى، كاملة بحيث لم يدخل عليها منذ ذلك العهد إلى يومنا هذا أدنى تعديل مهم, فليس لها طفولة ولا شيخوخة… ظهرت لأول أمرها تامة مستحكمة, ولا أدري هل وقع مثل ذلك للغة من لغات الأرض قبل أن تدخل في أدوار مختلفة… فإن العربية – ولا جدال – قد عمت أجزاء كبرى من العالم”.
لغة الحياة
يرى خبراء اللغة العربية أن أزمة الفصحى حاليا تتجلى في حصرها في المنابر ودور العلم البحثي الطلابي، بعيدا عن الشارع والإعلام، وهو ما يجعل الأجيال الجديدة تعتز بامتلاك طلاقة أجنبية وليس عربية في معظم الحالات، يأتي ذلك خاصة مع ندرة معلمي اللغة الذين يمكنهم نقل جماليات النصوص لطلابهم وتنمية ملكات التذوق وربطها بهوية الطالب واعتزازه بثقافته، إلى جانب تراجع المسابقات الشعرية والأدبية الجماهيرية؛ فاللغة تحيا بالاستخدام لا القداسة.
أما بخصوص علاقة العربية بالعلوم الحديثة وهو جدل لطالما شهدناه في عالمنا العربي حول تعريب العلوم؛ فيرى الخبراء أن ارتقاء الأمة علميا بحد ذاته سيكون سببا في دعم العربية كلغة عالمية للعلم، لكن ذلك لا يمنع البدء في الطريق.
اقرأ أيضا: لنا عبد الرحمن: الموت حضر بأكثر من وجه في أعمالي
