ثقافة وأدب

دينا شحاتة: العائلة هي الوطن والتاريخ في نداهة أصيل

تصطحبنا الكاتبة دينا شحاتة في روايتها الخامسة “نداهة أصيل” في رحلة من الضياع والغربة إلى الهدى والانتماء. تلك الرحلة التي يخوضها “أصيل” – الشاب الثلاثيني بطل الرواية – من لندن حيث بلاد المهجر إلى جدة حيث الجذور وبيت العائلة القديم، فيجد فيها ما يُنير ظلمة قلبه بعد رحلة استمرت لبضعة أيام ولكنها أنارت عتمة مكثت منذ سنوات طفولته البائسة، ليبدأ حياة جديدة، قائلًا: “ومضيت في طريقي أحمل نبتة خضراء في صدري”.

“نداهة أصيل” هي ترجمة لنفس إنسانية تائهة مغتربة ليس فقط عن المجتمع الذي تعيش فيه، بل مغتربة عن ذاتها وحقيقتها. إنها نفس تخوض رحلة ذاتية في أعماقها تُعرض على القارئ من خلال الرحلة الجسدية التي يخوضها البطل من لندن إلى جدة. ولكن الرحلة الحقيقية الأقوى تأثيرًا عليه هي رحلته الداخلية من التيه والغربة والوحل إلى التصالح مع ندبات الطفولة والقلق والوحدة الحالية، ليبدأ عهدًا جديدًا مع ذاته عنوانه “النور والوعي”. تذخر الرواية بثيمات أدبية ومعاني إنسانية عديدة تناولها حوار أجرته “صوت البلد” مع الكاتبة حول أهم سمات الرواية مثل اللغة والهوية والفن والانتماء والتاريخ ومختلف المفاهيم الشعورية وكذلك النهاية المفتوحة للرواية.. وإلى نص الحوار..

لماذا اخترت أن يكون الجد أصيل مصري وليس من جدة؟ 

عندما زرت جدة التاريخية وأقمت فيها لمدة ستة أسابيع ضمن إقامة فنية، رأيت الكثير من البيوت لعائلات ممتدة، من ضمنها بيوت يرجع تاريخها لعائلات مصرية استقرت في جدة، لذا شعرت إن ذلك الاختيار أقرب إليّ، بحكم كوني كاتبة مصرية، فالتاريخ بين مصر ومنطقة الحجاز طويل وممتد على مدار قرون.

لماذا لقى أصيل الابن ذاته وهويته في جدة وليس مصر، هل هذا تأصيل للهوية المصرية كهوية عربية في الأساس؟ 

الرابط بين أصيل الجد ” المصري” وأصيل الابن، عشر أجيال، لذا الأوقع أن أصيل عندما سافر من لندن إلى جدة، باحثا عن صورة أمه التي توفت دون أن يتذكرها، سيبحث عن هويته حيث هوية أبيه وأجداده الأقرب إليه، كما أن أصيل لم يكن يعرف أن جده الأكبر أصيل من مصر سوى بعد حديث الحجر المنقبي له.  ربما يبحث بعد ذلك عن أصل عائلته ويسافر إلى مصر لاحقًا، لكنه لم يكن على أي دراية بتاريخ عائلته وما مروا به، لذا كان عليه أن يبصر أولًا وقع أقدامهم فوق أرض جدة، تاريخهم الشخصي، علاقاتهم المتداخلة واشتباكهم مع تاريخ جدة، ليعرف موقعه وذاته بالتبعية، حيث أن تاريخ العائلة هو تاريخ المرء الشخصي حتى لولم يعرفه.

ما سبب استخدام لغة عربية رصينة حتى في الديالوجات رغم أن أصيل لا يجيد التحدث بالعربية؟

في افتتاحية الرواية يقر أصيل أنه لا يتحدث اللهجة الحجازية ولا أي لهجة محلية تنم عن أصل عربي، لغته العربية أشبه بلهجة بيضاء تعلمها من شيخ ماليزي مقيم في لندن، لذا جاءت اللغة العربية غير مطعمة بلهجة حجازية كلهجة أهل جدة، حرصت أن تأتي اللغة بسيطة دون تعقيد.كما نقرأ على طول الرواية، يتناوب الحجر المنقبي والرواشين وشجرة النيم وباب البيت والأتاريك الحكي على أسماع أصيل، فلهؤلاء أيضا لغتهم العربية السلسة.

مواطن الضعف

رأيت تضاد بين انجذاب أصيل للفن وتحقيره له وحصر رؤيته للفن في كشف مواطن ضعفه فكيف تفسرين ذلك؟

أصيل يعاني من أزمة هوية واضحة، تجعله تائه، ساخط على ما يحبه أكثر من سخطه على ما يكره، يخشي التعلق بالأشياء، فيفقدها أولا قبل أن تتركه، ابتداء من علاقته بصديقته ورد الذي تجاهل رسائلها لأنها أخبرته بحبها له، ولذلك أصل في طفولته من وفاة أمه وهو لم يكمل الرابعة من عمره وهجرته مع أبيه إلى لندن، ولغته المتعثرة في البداية، وفشله في الاندماج مع زملائه هناك عكس أباه الصحفي المتحقق، كل ذلك أنعكس على رؤيته للفن وممارسته له، فلم يكمل دراسته في كلية الفنون في لندن، ظنا منه إن الفن لا يُدرس، بل يلقي في قلب المرء، فيعيد بعثه إلى العالم مرة ثانية، ورغم أنه يقر فيما بعد بفشل ذلك الاعتقاد، لكن كأنما ينتقم من نفسه؛ من فشله؛ من تيهه؛ من وحدته، بأكثر شيء يقدره ويحبه، من الفن، فبدلا من أن يبجل الفن وأثره، زاد من احتقاره، بدأ يكشف عن مواطن الضعف لأي  فن عظيم، حتى أن أول مقال كتبه، كان عن التقليل من لوحة الموناليزا، ولأنه فنان حقيقي، له موهبة حقيقية في إدراك الفن وعظمته، فهو قادر أيضا بشكل واعي من التحقير منه لعدم قدرته على ممارسته بشكل حقيقي، خوفا من الفشل، فهو كما جاء على لسانه ” الفنان الحقيقي إذا لم يصنع الضوء، لا يتورع عن خلق الظلمة “، لذا؛ ولأنه غير قادر على ممارسة الفن كما يحب، فلم يتورع عن التحقير وخلق الظلمة على كل فن عظيم، كأنه ثأره الشخصي مع ذاته الضائعة.

“ظنا مني أن إلقاء الضوء على الجمال في الفن ممارسة شافعة، ويقيني أن ذلك كذب” ورد ذلك على لسان أصيل، فهل تؤمن دينا شحاتة بأن النقد الفني ليس فنا في حد ذاته؟ 

 تلك ليست رؤيتي الشخصية، أنا أرى أن كل ما يتعلق بالفن هو ممارسة حقيقة له، كل تعاطي جديد حول دائرة الفن هو فن ، وكل قراءة واعية لنص هي بمثابة تأويل جديد وكتابة مغايرة، لكن بالحديث عن أصيل، ذلك نتاج غضبه من نفسه، لعدم التزامه في دراسة الفن وتركه لكلية الفنون في لندن مبكرا، وانتقامه اللاواعي من أكثر شيء يعبر عنه بالحط من قدره وتحقيره، لذا بتتابع حكي شجرة النيم وقولها له ” قلبك مريض وعقلك مشوش وعينك لا ترى داخلك “، رغم غضبه منها وتركها، انتبه أن عقله الذي طالما أقنعه بأن القاء الضوء على الجمال في الفن ممارسة شافعة، هو اعتقاد لا يمثله، عكس رغبته الحقيقية التي ينكرها عن تهربه من ممارسة الفن كما يحب ويرى.

ما هو المحرك الأساسي لتلك المشاعر والمفاهيم الشعورية التي أدعم أن تصنعي لها قاموسا خاصا بدينا شحاتة، وآخرها ” انعدام الحيلة المصاحب للفراغ ” ما مصدر إلهامك بتلك المشاعر الفياضة؟

التزام الصدق في رسم الشخصية، ومحاولة تتبع مسارها، وفهمها، يأتي بتلك المشاعر والمفاهيم، فكلما تعمقت بصدق داخل ما أكتبه، تجد الشخصية صوتها الحقيقي والمعبر عنها، تلك الجملة ” انعدام الحيلة المصاحب للفراغ” جاء على لسان أصيل وهو يتأمل منظر الجبال في طريقه لإداء العمرة في مكة، فكّر أن الجبال لا تطبع في قلبه سوى الفراغ، فراغ كبير بلا حيلة، وتساءل وقتها عن تعريف العجز، وهو منشغل بإعادة تعريف الأشياء تبعا لقاموسه الشخصي، كوسيلة يتعرف بها على نفسه وما هو عليه، لذا بعد تأمله في تفسير ما الذي يعنيه العجز له، فهو كما أعتقد سابقا أن العجز نتاج إحساس المرء بانعدام حيلته أمام أمر يتمناه أو يطلبه، لكنه رأى حاله في قيامه برحلة إلى مكة، لأداء العمرة بوحي من شجرة النيم، أنه ” انعدام الحيلة المصاحب للفراغ”، ذلك أمر كما وصفه، يصعب معه التعريفات والمفاهيم.

النهاية تركت مفتوحة، هل سيعود أصيل إلى لندن بقلب جديد وهوية عربية متماسكة، أم سيختار أن يكمل حياته في جدة؟

لا أحب تأويل النهاية، أحب تركها لخيال القارئ، حيث ما يحب ويرى، لقد نبتت في قلب أصيل بذرة خضراء، والقرار له إن أراد أن يرويها لتكبر أم يهملها، كل الاختيارات ممكنة.

📎 رابط مختصر للمقال: https://www.baladnews.com/?p=445

موضوعات ذات صلة

معرض الكتاب حالة ثقافية فريدة لهذه الأسباب

المحرر

صاحبة النساء كاملات عقل ودين: هدفي إنصاف المرأة

المحرر

السيناريست مجدي صابر: التواصل مع المجتمع أساس كتاباتي

المحرر

الزلوعي: شجرة الميلاد لها جذورعميقة في مخيلة البشر

المحرر

د. مصطفى رمضان: نهضة إفريقيا الزراعية يتناول قضية أمن قومي

المحرر

صرخات العالم قبل أن تلتهم حرب التجويع أطفال غزّة

المحرر