يبدو أن شعارات “التجديد الديني” لم تسحر أعين المصريين، وبمجرد إعلان ظهور مؤسسة “تكوين الفكر العربي” من ساحة المتحف المصري الكبير، استعاد الجميع شريطا طويلا من إثارة الجدل والمشاعر الدينية، ولم يكن مستغربا أن يطالب ما يزيد عن 70% من المصريين بإغلاق المؤسسة- بحسب مؤشر الفتوى- وأن ينهال سيل من البلاغات القانونية والمطالبات البرلمانية بوقف أنشطتها الضخمة ذات التمويل الأجنبي والتي تحمل مضامين علمانية متطرفة مناهضة للدين.
ليس هذا فحسب بل بدأت حمى الانشقاقات تصيب المؤسسة؛ وتحت مبرر “التفرغ للكتابة التي تبقى” انسحب الخبير التراثي والروائي د.يوسف زيدان من مؤسسة “تكوين”، وهو الرجل الذي يُنظر إليه بوصفه أحد أعمدة المشروع، وهو من اتهمه د.خالد منتصر ضمنيًا بـ”الطاووس” الذي يدير حديقة التنوير، وسبق ان اختلف الباحث إسلام البحيري ويوسف زيدان؛ حول حقيقة الإمام ابن تيمية الذي يصفه البحيري بالدموية والزندقة، وغيرها من الخلافات التي تصاعدت بشكل كبير مؤخرًا.
حتى الآن لم تعلن “تكوين” عمن يموّل أنشطتها الإعلامية والفكرية الضخمة، والتي ذكرت أنها بغرض “تطوير خطاب التسامح والحوار، وإعادة النظر في الثغرات التي حالت دون تحقيق المشروع النهضوي الذي انطلق منذ قرنين”.. وإذا كان الأمر كذلك، فما السبب الأعمق لغضب المجتمع من “تكوين”؟
تكوين .. إدانة بماضي مؤسسيها
في معرض رد الإمام أحمد الطيب شيخ الأزهر على آراء الكاتب إبراهيم عيسى، قال: “الغلو العلماني” وجه آخر للتطرف ومسبب للفتن؛ وآراء “عيسى” لا يتبرأ هو منها؛ وقد نفى حادثتي الإسراء والمعراج وأشار لكونها رحلة “بالروح لا الجسد”، وسخر من عذاب القبر، وطعن في الخلفاء الراشدين والصحابة واتهمهم بالدموية والسعي للسلطة، كما طعن في مصادر السنة والسيرة النبوية، وهو نفس اتجاه الباحث إسلام البحيري والذي سبق له مرارا الطعن في فقهاء المسلمين ورواة الحديث وأهمهم البخاري، واتهمامهم بالتدليس والإرهاب، أما يوسف زيدان فاتهم صلاح الدين الأيوبي بالإرهاب ونفى وجود المسجد الأقصى في فلسطين أصلا!، ونفى معجزة المعراج النبوي، وشكك في مواقيت الحج.
الخيط يمتد فنرى أزمات مشابهة لجميع الشخصيات العربية المشاركة بإدارة “تكوين”؛ فيرفض د.فراس السواح كون الحجاب فرضًا على المرأة، كما يرفض امتثال الآية الكريمة بأن الدين عند الله هو الإسلام قصرا ويأولها لكافة الأديان الإبراهيمية!، أما د.ألفة يوسف عبر كتاباتها النسوية فتقول مثلا بأن المثلية الجنسية ليست المقصودة بلعن قوم لوط، وقولها بمساواة الرجل والمرأة في المواريث، ونفيها لفرض الحجاب بالمخالفة للإجماع الديني.
ورغم أن المؤسسات الدينية الكبرى لم تصدر بيانات رسمية بعد، لكنها تركت المجال مكفولا للعلماء للرد، ورأينا الشيخ د.علي جمعة يكتب: “اجتمع المثقفون ويا ليتهم لم يجتمعوا.. وكأننا لو تركنا الدين سنلحق بركب الحضارة”، ورفض الشيخ د.أسامة الأزهري “إنكار السنة النبوية” وطالب بمناظرة قادة “تكوين” مبديا رغبته في تدريب جيل من الدعاة لرد الشبهات.
زيدان وفراس السواح خلال افتتاح مؤتمر طه حسين الأول لـ”تكوين”
أهل الفكر: “تكوين” هدم وليس بناء للأمة
في حديثه لـ”صوت البلد” يرى المفكر الإسلامي د.كمال حبيب أن “تكوين” يقودها مجموعة علمانية أصولية تنبذ الدين الإسلامي الذي يعد شوكة في حلق مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي يرحب بإسرائيل وفق هندسة أمريكية تسعى لإعادة ترتيب الضمائر والأفكار العربية تحت يافطة “التنوير” المخادعة؛ رغم أن حضارة الإسلام قد قادت العالم منذ ظهرت إلى الوجود قبل قرون، فلا يمكن نسف هذا التراث العظيم بعلومه وفقهه وأصوله المستندة للقرآن والسنة النبوية، ومن يشارك في معركة الهدم هم من “معذبو الأرض” بتعبير فرانز فانون، لأنهم يعملون ضد هوية أمتهم، مصابون بالاغتراب عن أمتهم، فاقدون للمؤهلات المعينة لفهم التراث، لذا فإن مشروع “تكوين” ولد ميتا والصخب الإعلامي حوله هدفه تعميده كقوة ثقافية.
يرغب قادة “تكوين” في تصويرهم كامتداد للمفكرين الليبراليين مثل طه حسين وأحمد لطفي السيد، ولكن الفارق أن المفكرين القدامى كانوا يعرفون الإسلام كروح يستحيل انتزاعها من قلب الأمة، وبعضهم استدرك بعض آرائه المتأثرة بالغرب في مرحلة لاحقة، أما تنويريو اليوم – بحسب حبيب- فهم صناعة غربية وبرامج ممولة، يجترون المعارك دون آليات الاجتهاد الإسلامي.
ومن جانبه يرى د.حسين القاضي الباحث في شئون الحركات الإسلامية أن الرد على منطلقات مركز “تكوين” يجب أن يحمل فكرة المبادرة لا رد الفعل، والانجرار لمعارك يومية تستنفد طاقتنا في مواجهة التطرف العلماني، والحل برأيه في تفنيد أصولهم الفكرية قبل الرد على الشبهات المتفرعة ، مع التأكيد على مرجعية الأزهر، وإتاحة رد هاديء مثل كتاب الشيخ عبد المتعال الصعيدي “لماذا أنا مسلم؟” ردا على كتاب إسماعيل أدهم “لماذا أنا ملحد؟”، وتفعيل وحدة “بيان” التابعة للأزهر والجهات المعنية برد الشبهات ومنها مؤسسة “طابة” التابعة للحبيب الجفري.
ويتفق معتز عبد الرحمن، وهو باحث إسلامي ومؤلف كتاب “أزمة البخاري”، أن التعامل مع مؤسسة “تكوين” يجب أن يتجاوز منطق “الصدمة” و”الانفعال” وينطلق لبناء تراكم معرفي للرد على الشبهات وصولا لتأسيس ثقافة حديثية لدى الشباب؛ وتدرك أن الحديث النبوي ليس مجرد مرويات يسهل التشكيك فيها، لكن سلسلة من السند، تبدأ من صحابة رسول الله الكرام الذين رووا عنه وصولا للمحدّث، وصاحبتها علوم بالغة الأمانة والدقة للتأكد من صدق هؤلاء الرجال مثل الجرح والتعديل والعلة، فعلينا ان ننجرف لكل من يلقي شبهة وأن نركن للعلماء الثقات.
من جانبه يرى د.أحمد سالم أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة طنطا، أن ما خرج مؤخرًا نتاجه خطير على المجتمع ككل؛ فهناك ضوابط للحق في التعبير لعلاج مشاكل المنطقة العربية التي تحتاج وعيا كبيرا وليس آراء مثيرة تسعي لـ”التريند” وقلب الأمور الثانوية لمتن يلتف الناس حوله وينسون مشاكلهم الحقيقية.. ثم إن التغيير والإصلاح لن يأتي بتجاوز التراث الروحي والإنساني لمجتمعاتنا فهو ممتد وراسخ في مجمله.
ويؤكد صاحب كتاب “العقل والدين” أن “تكوين” تصدر مشهدها شخصيات منفرة للوعي الجمعي، تفتقد اللياقة في مخاطبة الجماهير وتنظر لهم كـ”غوغاء” يحتاجون لـ”التنوير”، فمن الذكاء استحضار عناصر القوة في التراث الروحي للأمة ومخاطبتها به بدلا من إهداره.
