ثقافة وأدب

نوبل السلام وترامب.. هل يسخر القدر مجددًا؟

تشهد مدينة أوسلو النرويجية في الجمعة 10 أكتوبر المقبل، إزاحة الستار عن اسم الفائز بجائزة نوبل للسلام، وهي التي لطالما حلُم بها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وروج لقناعاته الراسخة بدوره غير المسبوق في وأد فتيل الحرب في العديد من البقاع الساخنة التي تئن من شفير الحرب.

يستبعد  مراقبون أن تصبح الجائزة المرموقة من نصيب سيّد البيت الأبيض؛ وبرغم الضغوط الهائلة التي يمارسها على إدارة معهد نوبل، بأسلحة النفوذ المالي والسياسي-والتي وصلت للتهديد بأن عدم منحه الجائزة قد يعني إهانة بلاده- لكن الجائزة بحسب مانحيها في حديث لوكالة الأنباء رويترز، تصر على النأي بنفسها عن تلك الضغوط التي تصنعها لوبيات المرشّحين النافذين، والتي قد تأتي أحيانًا بنتائج عكسية.

يضاف لما سبق تشكك خبراء نوبل في صلاحية ترامب من حيث أنه أقدم على تفكيك النظام العالمي الذي ظلّت الجائزة تفخر به، بل وتجاهل الأمم المتحدة ودورها في حسم النزاعات، ورجح بعضهم أن يكون الاستثناء الوحيد إذا نجح ترامب في إقناع الزعيم الروسي بوتين بوقف الحرب على أوكرانيا، أو أقنع صديقه رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو بوقف الحرب على قطاع غزة، وهو ما يصعب تصوره واقعيا.

خلال الاحتفال بترشيحه من قبل إسرائيل لنيل الجائزة، قال ترامب للصحفيين وقد سعى للظهور كرجل سلام حقيقي: لا يعنيني كثيرًا الأضواء، ما يعنيني هو إنقاذ أرواح المزيد من البشر. مستطردًا: أعتقد أنني أستحق الجائزة بالفعل لما قدمته في سبيل نزع فتيل عدد من الحروب المدمرة في العالم. (هنا ابتسم مجرم الحرب نتنياهو مخفيًا أنيابه التي رشقها في قطاع غزة لإبادتها عن بكرة أبيها بسلاح أميركي وأوروبي).

ليست إسرائيل وحدها هي من رشحت ترامب تقديرا لما وصفته بجهوده الفائقة في إرساء دبلوماسية جديدة للشرق الأوسط وخلق علاقات جديدة مع الجيران العرب والذين انضموا للاتفاقية الإبراهيمية لشرق أوسط جديد. وقد نشرت مجلة “بولوتيكو” الأميركية قائمة بالدول التي رشحت ترامب ومنها باكستان بعد تدخل اميركا لإنهاء نزاعها مع الهند، وأذربيجان التي تدخل ترامب لإنهاء نزاعها مع أرمينيا، وكمبوديا التي رشحته بعد فصله في نزاعها مع تايلاند، لهذا بدا أن ترامب قد سارع بتخدير الكثير من النزاعات ونزع فتيلها حتى لو لم يتحقق سلام حقيقي دائم على الأرض، تماما كما باع الوهم للعالم بأن غزة ستشهد ازدهارا بعد عقود من العنف، وثبت أنه يتحدث عن غزة بلا شعب بعد تهجيره تدريجيا تحت مسمى “طواعية” وبلا استقلال حقيقي، وتحت وصاية كاملة من الغرب!

ترامب بلا قناع

في كتاب “ترامب بلا قناع” لمارك فيشر ومايكل كرانش، يمكننا الاقتراب من ترامب كسليل لتيار الناخبين الشعبويين الذين ظهروا في الولايات المتحدة الأميركية، تسعينيات القرن العشرين، وخرجوا بمظهر “القرويين الذين يحملون المذارير” لاستعادة بلادهم من السياسيين الذين أخفقوا في وقف الهجرة غير الشرعية والدمار الذي أحاق بالتجارة الحرة. توجّه هؤلاء الرجال إلى الجانب المظلم في الشخصية الأميركية، وورثوا فكرة “أمريكا أولًا” ومهاجمة الأجانب بوصفهم المسئولين عن مشكلات الأمة. 

يؤمن ترامب بالقدرة التي لا حدود لها للفردية على تحقيق كل شيء، وقد قاد آلة اميركية ضخمة لصنع المشاهير، عبر امبراطورية تمزج الترفيه والإعلام والعقارات بالشأن العام، وتخفي ليلا صلاتها القوية بعالم الجريمة المنظمة. ومعروف أن ترامب صاحب أول أندية قمار في أتلانتك سيتي بنيويورك. وسعى للسيطرة على دوري كرة القدم الأميركي. كما أنه الرجل الأول في عالم مسابقات ملكات الجمال في عصره. وقد نشر رؤيته كـ”رجل أعمال ناجح” في عديد من الكتب في بواكير حياته، ولهذا فقد تضخمت ذاته للحد الذي دفعه بتصديق صلاحيته لقيادة أميركا فضلا عن نيل نوبل السلام، ليجمع امبراطورية السلطة والمال ويضيف إليهما صورة ذهنية عنه كأحد عظماء التاريخ. 

لم يكن ترامب يلهو حين قاد  حملته الأولى ثم الثانية للوصول لحكم البلاد؛ فهو يجيد استغلال نقاط ضعف الخصوم وحشدها لصالحه، لدرجة صياح والد أحد الشبان الذين قتلوا على يد مهاجر غير شرعي: “ترامب مُرسل من الله!”

في كتابه “فكر كما لو كنت بليونير”، يؤكد ترامب أن تضخم الذات والنرجسية جزء من أسباب نجاح رجال الأعمال الناجحين، لأنهم يكرسون مواهبهم بلا هوادة لتحقيق أحلامهم حتى لو كانت على حساب من حولهم!

لهذا فإن تضاؤل فرص حصول ترامب على نوبل، لن تعني شيئا بالنسبة له سوى بذل مزيد من الإغراء والنفوذ لاقتناص ما يريد وما يشعر أنه يستحقه.

حلم نوبل البعيد

في المقابل ينظر كثير من خبراء نوبل أن هناك منظمات لديها فرصة أكبر لنيل الجائزة وهي منظمات إنسانية عملت تحت ضغوط تخفيض الدعم الأميركي المرسل للوكالات التابعة للأمم المتحدة في سوريا وفلسطين والسودان وغيرها من بلدان الحروب، وشخصيات أيضا كـفرانشيسكا ألبانيز المسئولة الأممية التي فضحت إبادة غزة. ومنظمات كبرى ومنها “محكمة العدل الدولية” و”الأونروا” و”اليونيسيف” و”منظمة الطفولة” و”أطباء بلا حدود” و”الصليب الأحمر” فضلا عن المنظمات المعنية بحماية الصحفيين في أزمنة الحرب.

يقول نينا جراجر مدير معهد السلام في أوسلو لوكالة “رويترز”: لا أعتقد استحقاق ترامب للجائزة فقد انسحب من دعم منظمة الصحة العالمية واتفاقية المناخ في باريس وقاد تجارة الحرب والسلاح مع حلفاء أميركا التقليديين وكانت عواقب ذلك وخيمة على السلام وأرواح الأبرياء، وهو عكس تماما ما قامت جائزة نوبل من أجل تحقيقه بوصفها جائزة لمن ساهموا بتعزيز السلم العالمي.

القلادة بأيدي مجرمي حرب

برغم ما سبق، لنكن واثقين أن نوبل تدمن المفاجآت، وقد منحت جائزتها لكثير من الشخصيات الأميركية غير المتوقعة مثلما جاء باراك أوباما صاحب وعود السلام والذي فاز بالجائزة بعد أشهر قليلة من وصوله للحكم وقبل إنجاز أيا من وعوده. 

ونوبل السلام سبق أن فاز بها عدد من عتاة الإجرام الصهيوني وأشهرهم إسحاق رابين، وشيمون بيريز، ومناحم بيجن، وقد قادوا عصابات الإرغون وغيرها والتي ارتكبت مجازر بحق الفلسطينيين، كما نالها ثعلب السياسة الأميركية هنري كيسنجر، ودو كليرك صاحب سياسات الفصل العنصري بجنوب إفريقيا والذي نال الجائزة مناصفة مع نيلسون مانديلا.

في هذا الوقت، يقف سجل ترامب حائلا متوقعا بينه وبين نيل الصورة التي يتمناها لرجل السلام بعد أكثر من 70 ألف بريء معظمهم أطفال ونساء تمت إبادتهم بدم بارد من قبل إسرائيل بمباركته وتدمير قطاع غزة، واعتقال نشطاء الرأي في بلاده بتهمة رفض سياسات أميركا، ليجعل هذا السجل ترامب رجل إنهاء مسيرة الأمم المتحدة برمتها عبر ثمانين عاما من ميلادها منذ فظائع الحرب العالمية الثانية. هو الرجل الماكر ذاته الذي أرسله مبعوثه توم براك ليلقي رسائل تنبيء عزم بلاده استعادة سياسة اليد الطولى عبر حليفتها إسرائيل وتجاهل الحدود الوطنية، والتهكم على ما يسمى بالأمة العربية أو حق الشعب الفلسطيني في أرضه، مكتفيًا بالاعتذار البارد عن نهر الدماء المراقة كل يوم.

ربما بعد ذلك يجلس ترامب الآن في مكتبه البيضاوي ليتأمل صور من سبقوه من رؤساء أميركا ونالوا نوبل السلام ومنهم روزفلت وويلسون وكارتر وأوباما، وتلمع عيناه وتلهث أنفاسه قبل أن يزفر في زهوٍ مصطنع: لم لا؟ محاولا إخفاء بقعة حمراء فوق قميصه الأبيض. ويبقى لنا الانتظار والتساؤل: هل تنقذ نوبل السلام سمعتها؟

📎 رابط مختصر للمقال: https://www.baladnews.com/?p=1528

موضوعات ذات صلة

المتحف المصري واليونسكو في معرض التراث غير المادي

المحرر

د. أحمد عفيفي: الرقمنة تهدد اللغة العربية

المحرر

روايات هان كانغ تستكشف العلاقة المعقدة بين الإنسان والوجود

المحرر

وزارة الثقافة تستعد لملتقى الاقصر الدولي للتصوير

المحرر

الاثنين المقبل.. الأوبرا تعرض عفوية فنية بالمصري

المحرر

قطع أثرية مصرية تعود من ايرلندا

المحرر