سليدر

عبد الله عيسى: وحده الفلسطيني يرى النور في ظلمة الكهف

 يعد الأدب واحدًا من أمضى أسلحة المقاومة واستنهاض الحياة في وجه حرب الإبادة الصهيونية، والتي تشهد ذروة مأساتها في أيامنا الراهنة. وتصوّر قصائد ديوان “سماء غزّة.. تلال جنين” للشاعر الكبير عبد الله عيسى، طبيعة المحتل الإسرائيلي التي تسعى لمحو الآخر وسرقة هويته بكل توحّش، كما تتنبأ بمصيره -ككل الطغاة والغزاة- خلف مرآة التاريخ، بعد أن تلفظهم الأرض والسماء.

عبد الله عيسى إعلامي ومنتج وثائقيات تاريخية ويعتبر من  أبرز شعراء الحداثة العرب منذ ثمانينيات القرن الماضي ؛ لقب بـشاعر  فلسطين في المنفى، كونه ولد في مخيم ببّيلا على مقربة من دمشق  حيث هُجرت عائلته قسريا بعد نكبة 48. عمل  “عيسى” في الصحافة الثقافية الفلسطينية في سوريا  قبل أن يسافر إلى  الاتحاد السوفيتي ويقدم برامج ثقافية هامة لراديو موسكو آنذاك . كما حصل على العديد من الجوائز العربية والدولية، منها مؤخراً جائزة “الثقافة الإمبراطورية” باسم ادوارد فولودين، وهي أرفع جائزة يمنحها اتحاد كتاب روسيا عن ديوانه  قبل الأخير ” هناك حيث ظلال تئن” 2023.

تحمل السطور التالية لقاءًا مع الشاعر والدبلوماسي الفلسطيني حول أجواء ديوانه ” سماء غزة .. تلال جنين”  الفائز مؤخرًا بجائزة فلسطين لعام 2024 

قصائد ديوانك تواكبت مع الليالي الحزينة لحرب الإبادة.. فهل كانت جدارية لتوثيق تلك الجرائم؟

الديوان  حياكة تأريخ لإبادة شعبنا. وقصائد الديوان تبرهن على غريزة القتل الّتي تتملّك الإسرائيليّ “رسول الهاوية المعتمة” لمجرّد رؤيتنا على قيد الحياة. إن المقتلة  الكبرى في غرة وفي الضفة بدء من جنين، هي استكمال لتمارين القتل والمحو الممنهج الّتي يتسابق إليها قتلة مدرّبون منذ مجزرة دير ياسين عام ١٩٤٨ وحتى اليوم.هذا القاتل العبثيّ قام باقتطاع شيئا من التاريخ ولصقه بجغرافيا وفق مشيئته الهدامة. وقد أدرك – قبلنا- كم تؤثر الكلمة المبدعة في مواجهة الطلقة الغاشمة؛ ومارست ، وتمارس إسرائيل إبادة ثقافية تمثّلت في تهويد القدس وتدمير معالم غزّة وتصفية مبدعينا ومنهم غسان كنفاني وناجي العلي. لقد أدرك الصهاينة أنّ الشعر لا يخلق على هيئة الطير، لكنّه ينفخ الروح في الإنسان؛ وأشد ما يؤلمني وأجده غير لائق أخلاقيًا أن نتعامل مع هدم البيوت وقتل أصحابها كأرقام في شريط إخباري؛ إنها حيوات وذكريات وأرواح مكلومة من الفقد وأحلام لبشر كانوا هنا.

 ” المنفى المفتوح على ذاكرتك يبقيك أسير كوابيسك الباذخة”.. ، كيف تشاهد وطنك الذي يواجه نكبة تهجير جديدة؟

ثمة ما يشبه صلة الرحم بين الوطن وحلم العودة الذي يبقينا على قيد الحياة. لكن الحلم أصبح منقوصًا مادام لم يعد على الخريطة وجود لدولة فلسطين كاملة عهدناها في التاريخ. وطالما انقسم شعبنا بين الوطن المحتل والشتات وأصيب بداء الانقسام السياسي والمجتمعي.

أتذكر اليوم عودتيّ المنقوصتين إلى غزة وإلى الضفة  الغربيّة، لأدرك فداحة الدولة المنقوصة المجتزأة، بينما الوطن فكرة مترسخة ولها أجنحة.

لقد أرادت إسرائيل تحويل الأراضي المحتلة عام ١٩٦٧ إلى أراض متنازع عليها، ونقلنا نحن الأحياء  على  قسم مقتطع من وطننا نتجرع مرارة المجازر ونحلم بالعودة، ولكننا وهذه آيتنا ننهض في كل مرة كالعنقاء من تحت الرماد.  

“ينبغي الخروج من الكهف،كلّنا وكلابنا معنا/كي لا تتلاطم في العتمات ظلالنا الباردة..”لماذا لا يحمل الكهف بحمولته القرآنية رمزية الأمان في قصيدتك؟

لا مكان آمنا للضحيّة حتى في اللغة! إن المحتل يسعى لمحو رسومنا الأولى على جدران الكهوف، والتي سجّلت حضورنا منذ بدء الخليقة على هذه الأرض. يسعى المحتلّ لمحوها ليمرّر سرديّته المضلّلة التهويدية في مدننا ومقدساتنا وحتى مقابرنا.لا ينسى المحتل مهمتّه الأبديّة في نشر الظلمات، ولهذا يدمّر مدارسنا ويقتل أطفالنا.قديمًا لجأ القديسون إلى الكهف بإيمانهم خشية من بطش الطاغية، وكلبهم معهم باسطاً ذراعيه من الطمأنينة. لكنّ كلابنا ليست آمنة، ومنها من أصيب بالسمنة بعد أن نهشت لحم قتلانا. منع المحتل عنّا الكهرباء وترك دخانه يسد عنّا السماء، كي ترتطم أجسادنا بالظلمات، وكأنّنا في كهف مفتوح سقفه السماء. لكنّنا كعادتنا، وهذا ما يغيظ أعداءنا، نرى بالضوء في عيوننا! 

نحن ايتها الرسولة!/ من نتهيأ لنصبح قرابين لائقة، بولائم عيد جلوس رب الحرب”.. ما دلالة التناص مع قصيدة دنقل الأيقونية زمن النكسة؟

 كلّ الشعراء المبدعين يقدّمون عالماً شعرياً واحدا: الحب والجمال في مواجهة القبح والموت. في زمن النكسة حوّل الشعراء العرب قصائدهم إلى ضرب يهجون به ذواتهم  وحكّامهم وعوالمهم، لكن قلائل نجوا من هذا الوباء، ومنهم أمل دنقل، الذي فلم يبتعد في منجزه الشعريّ عن أدب المقاومة الذي ولد في فلسطين المحتلة عام ١٩٤٨ ببصمة محمود درويش وتوفيق رياد وسميح القاسم. لقد بكى دنقل “بين يدي زرقاء اليمامة “، وكانت قصيدته الكبرى “لا تصالح” صرخة ذاته الثائرة على هدر الدم العربي البريء والذي لا يزال يراق على مسمع ومرأى العالم المتخاذل الآثم.

سوف تضيق عليك أرضنا، مثلما ضاق الحصار عليّ.” .. كيف ينتصر الشعراء لفلسطين؟

الشعر قيمةً لا تُحتمل الحياة دونها . وبما أنّني الفلسطينيّ الوريث الشرعيّ لفلسطين الأرض المقدسة، سيكون لزاماً عليّ أن أحمي تلك القيم في صيغة شعرية جمالية بقداسة الأرض والإنسان. أشاهد أرضي حين تلفظ أرضي العابرين، وكيف يصير أسرانا أكثر حريّة من سجّانيهم، ونسلم على شهدائنا يوم ولدوا ويوم يبعثون حيًا يرزقون.

حين يخجلُ الأطفالُ من إعراب «بلاد العرب أوطاني»، هل نخجلُ معهم أم منهم ؟

– كلّنا شركاء في مأساتهم، بلجوئنا للصمت وامتهاننا العجز. لم نكن قادرين على حراسة أحلامهم في  الحصار  المطبق، أو منع الموت الّذي أعدّه العدوّ من زيارة أجسادهم . ونستحلفكم، كيف سنقنع أطفالنا بأنّ جارنا على أرضنا، ، قاتلهم الفذ، يميل للسلام معنا؟! كيف نقنعهم وعدونا يتخذ من الأطفال ساحة تدريب لجنوده الاحتياط المتعجلين للقتل والعودة لأطفالهم مبتسمين!

 صوّرت بحر غزة كحارس أبدي يطرد الغرباء.. فما الذي يمنحه كل تلك القوة؟

– بحر غزة عضو في العائلة الفلسطينية. عبر التاريخ ظل يحمي المدينة من غرائز القراصنة والغزاة. كان دائما البحر سلّة طعام تغني أهل القطاع من جوع. وظل الغزاويّون يلجأون إليه حتّى من القصف، ويبنون خياماً على مقربة منه، كما يفعلون اليوم في عهد الإبادة الكبرى .   ولأن الحروب تتكاثر على غزّة، فقد أصبحت النوارس تموت في عمر أطفالنا- أعمار الورد.

كنت في طفولتي أخاف البحر منذ كاد يبتلعني، لكنني لما كبرت طفتُ بحر غزة على حَسَكَة أي قارب صيد، ومن يومها زرع الله الطمأنينة في قلبي . اليوم يحلم أهل غزة بتلك السفن التي تفك الحصار عنهم، تماما كما فعلت من قبل “مرمرة” قبل أن تقصفها البوارج الإسرائيليّة، فالمحتلّ نفسه يحلم ان يستفيق ذات يوم ويرى غزة وقد ابتلعها البحر! . 

تقول في ديوانك: لسوف أعمّر تلك المعابد،حتى تصلوا على من دفنتم/على عجل..هل تحتاج غزة وقتا للبكاء؟

– أتت حرب الإبادة هذه على دور العبادة ، مسيحيّة وإسلاميّة، لم تفرّق كنيسة القدّيس برفيريوس والمسجد العمريّ. لم تترك لنا الحرب فرصة لأن نواري الثرى على أحبتنا بما يليق أو وداعهم؛ فعائلات كاملة انتهت في لمح البصر، وكثيرا من الشهداء أشلاء ومجهولي هوية، ولقد ضاقت مقابر غزة بمن سفكت دماؤهم، مع ذلك فغزة تعلم أنها باقية كالبحر وأن كلّ الجبابرة واللصوص مرّوا من هنا كريح عابرة.

في ختام ديوانك، لماذا اخترت أن تكتب رسائل نثرية لرفاق الصبا والنضال؟

تعود تلك الرسائل إلى حلمنا القديم باللحاق بقطار مستقبلنا بعد احتلال بيروت ومجازر صبرا وشاتيلا وما تلاها من شقّ منظمة التحرير بأصابع النظام السوري، وتحايلنا على الموت بعد مطاردات، وشتاتنا في بلاد الله. لقد كانت الرسائل كقطرات مطر أنزلته غيوم لا أرض لها لتصبح كل قطرة وطنا بأسره! دمجت الرسائل بين المسرحة والمحكية الفلسطينية، استشعارا بحاجة مأساة فلسطين التي جعلت العالم ينقلب ويخجل في مراياه لما هو أبعد من كل تقليدي.

أن تكون فلسطينيا، فهذا يعني أنك محكوم بحلم العودة ودوران المفاتيح في الأقفال الصدئة.. هل تعد تلك أبرز مقومات الصمود في فلسطين؟

كلّ مايفعله أعداؤنا بقتلنا هو محاولة لقتل هذا الأمل ولكنه لا يدركون أننا نجيد حياكته بكل شيء فينا: مكوثنا في مخيّمات اللاجئين قابضين على جمرة الوطن المفقود. مفاتيح البيوت القديمة ظلت تنتظر العودة إلى أقفالها. صندوق العائلة الذي يحتفظ بالصور ووثائق ملكية الأرض والحليّ الّتي تهديها الأمّ لابنتها العروس. خاتم جد ينتظر حفيده. كل ما فينا يحب الحياة والصمود. أهمّ صمود لنا أننا مانزال على قيد الحياة ، وسنبقى بهذا نفسد أحلام أعدائنا.

📎 رابط مختصر للمقال: https://www.baladnews.com/?p=1333

موضوعات ذات صلة

د. مجدي بدران لـ(صوت البلد): قلة النوم تُضعف المناعة

المحرر

عروس السراديب.. مزيج بين التاريخ والفانتازيا

أيمن مصطفى

الزراعة: الذكاء الاصطناعي كلمة السر لزيادة الإنتاجية

المحرر

أحزاب : تصعيد التوتر بين إيران وإسرائيل يهدد استقرار المنطقة

المحرر

الزراعة: خطة جديدة لحماية الثروة الحيوانية

المحرر

مشروبات تُضعف جهاز المناعة.. ابتعد عنها

المحرر