سليدر

فوق رأسي سحابة.. هروب للقاع مع القاتل الأول!

في روايتها الأحدث الصادرة عن دار “العين” ترسم الكاتبة دعاء إبراهيم تراجيديا نفسية لامرأة استُلبت منها براءتها مبكرًا، وقادتها أقدارها لملاقاة الموت كصديقٍ أسود يحلق فوقها ويرسم لها الطريق لحافة الهاوية.

تبدو الحياة ممكنة حتى تواجه في صفحات رواية “فوق رأسي سحابة” عالم المهمشين وغياب العدالة حتى في أكثر دول العالم تقدمًا. لذا أهدت الكاتبة روايتها “لكل من فقدوا أقدامهم، فصاغوا من المأساة أجنحة”. كان بينهم إيواوا هاكامادا؛ ذلك الملاكم المحترف الذي اعتُقل عام 1966 بتهمة القتل، قبل أن تثبت براءته بعد 48 عامًا!

الرواية تتبع تقنية الاسترجاع (فلاش بك) حيث تبدأ رحلتنا مع البطلة من زنزانة وتنتهي إليها، وتقوم الأحداث على استعادة ماض عنيد في ملاحقته. والموت هو التيمة المهيمنة للعمل، بيد أن الانتهاك هو الأصل الذي تبدأ منه الأشياء. وهو الموت الصامت قبل الموت الحقيقي.

اختارت د.دعاء إبراهيم أنسب أصوات التعبير عن البوح والاعتراف للذات.كانت تلك الأنا في الرواية النفسية لسيرة ضحية/جانية، هي البطل الذي تشحب ألوان الأبطال حوله وقد بهتت ملامحهم.

سائل شفاف وحقنة هو كل ما يلزم ممرضة في مشفى حكومي، لتنتهي سريعًا من ضحاياها؛ في كل مرة ينعق فيها الغراب الأسود القابع فوق رأسها “سيموت اليوم”! لقد انكشفت الحجُب. كانت تلك نقمتها الكبرى مع نعيق الموت الصارخ حولها. ثمة فضيلة واحدة هي ان تصبح الموظفة المثالية التي تنقذ مرضاها، قطعا ممن لم يقع عليهم الاختيار ليصبحوا الضحية بعد أن كانوا جميعًا جُناة.

تكيفت مع يومياتها المقيتة فقط لتنجو؛ فالإنسان كائن هلامي كلما وضعوه في إناء اقتطع جزءا من جسده وألقى به بعيدا ليعيش، دون ان يبكي!

تجيد الرواية رسم ملامح البيئة التي نشأت فيها البطلة وسنرى أنه لا يمكن لطفلة أن تتعاطف مع أم تركتها نهبًا للخال السادي الشبق، يلهو بجسدها كيفما شاء، يطفيء فيه أعقاب السجائر بعد شهوته المدنّسة. تعد تلك الحادثة مفتاحا لفهم سلوك البطلة، والتي أصبحت فجأة ضيفة يلعنها أزواج بلا عدد يتعاقبون على بيت الأم. أما الأب فلم يكترث لزوجة مصرية وابنتها في اللفافة. كانت وجهته لليابان مع أخرى لطيفة يحقق معها حلمه.

برعت الكاتبة في تصوير تلك الليالي المريرة التي عاشتها البطلة وهي تهرب في الشوارع المظلمة، ثم عودتها راضخة لجدتها (التي صارت أما برغم شيخوختها) لتحتمي بحيطانها. ورضوخها لنزوات انتهاك جسدها التي انتهت ذات يوم بها في عيادة إجهاض وهي بعد صبية لم تكمل 17 عاما، ثم لحظات وداعها لحلم أن تصبح طبيبة، فالبعض لا يملك رفاهية الحلم!

إثم الماضي

تلفتنا الرواية لأبعاد اجتماعية تعانيها الممرضات، وكيف تُمتهن الكرامة، وتحمل الأكتاف مسئولية شكاوى من حولهم من مرضى لأطباء، ودورهن الذي يراه البعض مسح فضلات وسباب الآخرين بكل تفانٍ.

جاءت البطلة من خلفية مشحونة بالفعل بالانتهاكات، ممن يُفترض فيهم السند والأمان، هؤلاء الذين قتلوا سماوات الرحمة في قلبها، قتلوا إيمانها بالعدل، قتلوا الخوف أيضا من الألم والقهر!

هكذا تحولت البطلة “نهى” لقاتل رحيم، تبتسم أمام شحوب من ينعق الغراب بموتهم، تريحهم بحقنة سائل شفاف توقف قلبهم فورا. لا ندري هل خلقت البطلة غرابها المصاحب القديم لقابيل أول قاتل عرفته البشرية، أم هو كائن حقا.

حين ترتدي قميص امها القرمزي وتنظف البيت لاستقبال المعزّين، بلا دموع نعرف فعليا كيف تحدث الأمور الصعبة بحكم الاعتياد الذي مارسته؛ مع طفل يبكي او مع حارس أدمن انتهاكها وجرجرتها لمستنقعه.

سماء بلا أحلام

“كريش طائر مذعور يريد أن ينجو” كان ذلك شعورها حين توقعت أن تتغير الحياة في اليابان حيث تطير البطلة لوالدها. تترك الماضي بغربانه وخالها الوغد وعيون الضحايا. وتفهم أن الحياة في اليابان مسئوليتها وحدها. لكن ينعق الغراب مجددا، وهو دائما رديف الموت عند العرب، لكن الحقيقة انه لم يؤذها هذه المرة قدر ابتسامة أبيها الذي اراحته من عبء الحياة، حين كانوا يكفنونه على الطريقة اليابانية.

في مشهد دال تعوي العواصف الشديدة. يتدثر الجميع في البيوت. بينما هي تفتح صدرها ليقتلعها البرد والريح مما يعتمل داخلها من خواءٍ موحش.

لم تقتل رفيقة حجرتها؛ وقد كانت كوماموتو رئيستها في العمل شخصية وديعة؛ هي من انطفأت روحها بعد انتحار زوجها وقد أصبح ترسا في ماكينة عمل لا ترحم. كان ذلك هو الوجه المظلم الذي قد لا تراه في اليابان. في تباعد الأزواج وفي بيوت الحب وفي الذنب الذي يلتهم الروح. تكتمل اللوحة حين نرى بطلة الرواية نفسها ضحية بائسة لرفيقتها المحرومة من الحب، وقبل أن ترتطم بالأسفلت من شرفتها.

أدب الصدمة

“الألم أوله إنكار وآخره إذعان”!

أصعب ما في تلك الرواية، أنها تقدم أدب الصدمة، بكآبته الكاملة، ولغته التي لا تعرف المواربة، بظلمته التي لا يشرق فيها إلا وهج الأدب ذاته، تصوير الشخصيات وإضاءتها نفسيا وظاهريا ورسم أجواء متفاعلة تماما معهم كقبضة من الحياة؛ بين عالمين اتفقا رغم اختلافهما الشاسع على قمعها.

ترسم الكاتبة ملامح اليابان التي تعيش فيها وتخبرها عن قرب. يبدو الشعب الياباني مهذبا ونظيفا ومنظما لأبعد حدود. هذا صحيح. يبدو الهواء نقيا معبقا بالورود. لكن البطلة ترى الوجه الآخر، وتقاد للتحقيق المروع في منظومة قانونية لإبادة روحها وإجبارها على الاعتراف.

في الزنزانة حيث تجثو على ركبتيها طويلا تهذي ألما وهي تراقب مصيرها في عجوز قضت 20 عاما ثم ظهرت براءتها من حرق ابنتها. ذكرياتها التي تندفع ساخنة لرأسها رغم صقيع الأرض.. ذكرى العجوز الطيب الحزين الذي تسامر معها ووجد العزاء لفقد زوجته في إحدى السيول. 

تطرح الكاتبة فهما أعمق للبطلة التي تحتقر ذاتها كخرقة بالية، يقودها الجنون لحب قابيل القاتل الأول في إحدى الهلاوس التي تمنح النشوة واحتقار النفس معا. يدفعنا الإسهاب في العلاقة الحميمية السردية لما تعتقده البطلة ذاتها عن نفسها كونها “ملعونة” ربما “عاهرة” دون ان نتخلى عن الشفقة عليها.

 النهاية متماشية تماما مع خط الرواية. وحين ينعق الغراب أخيرًا بصوت القدر: “ستموتين اليوم”. تتأمل البطلة النيران وجسدها يتآكل فيها. هنا يصبح الموت ملاذها لا الكابوس المرعب الذي تخشاه.. راحت تحوم حوله راضية بخفة وبلا قدمين. وهكذا تكتمل لوحة التراجيديا الحياتية لأولئك الذين فشلوا في النجاة من الماضي!

📎 رابط مختصر للمقال: https://www.baladnews.com/?p=370

موضوعات ذات صلة

الزراعة: الذكاء الاصطناعي كلمة السر لزيادة الإنتاجية

المحرر

أغذية للوقاية من ارتفاع ضغط الدم

المحرر

انطلاق حملة التوعية بمقاومة مضادات الميكروبات بأسيوط

أحمد الفاروقى

ارتجاع المريء.. دليل شامل للتشخيص والعلاج

المحرر

إعادة رسم ملامح البحر الأحمر ليصبح وجهة عالمية

المحرر

مستند رسمي يؤكد سحب أرض الزمالك بشكل نهائي

محمود المهدي