سليدر

صلاة القلق.. سيرة المنسيين من غبار الهزائم لنهار الحرية

“عدى النهار، والمغربية جاية تتخفى ورا ضهر الشجر. وعشان نتوه في السكّة.. شالت من ليالينا القمر”

لم تكن تلك مجرد أغنية لعبد الحليم حافظ من كلمات الأبنودي وألحان بليغ، سكبت دموع الهزيمة في كل بيت بمواكبة نكسة يونيو وانكسار الحلم العربي في 1967؛ لكن صوت العندليب ظلّ أيقونة زمن المشاعر القومية العروبية وصمودها في وجه العدوان الغربي الإسرائيلي.. حفظ التاريخ لنا جميع خطب الزعيم ومؤرخي عصره ولكنه لم يحفظ سيرة المهمشين في تراب النكسة!

يلتقط الروائي المصري الكبير محمد سمير ندا في رائعته “صلاة القلق” وهو العمل الذي حاز جائزة “البوكر العربية للرواية” هذا العام، أصداء عشر سنوات أعقبت نكسة يونيو، وكيف انعكست على البسطاء الذين كان أبناؤهم وقود الحرب بأرواحهم وأحلامهم الهشّة.

تدور الرواية الصادرة عن دار “مسكلياني” في نجع مهمش فقير له نصيب من اسمه “المناسي”؛ فلا تعرفه الخريطة ولا يراه المسؤولون.. هناك يعشش القلق كعنكبوت عنيد في كل بيت، وينمو صوت الحرب فتتوقف الحياة.

حبكة الرواية تبدأ مع انفجار عظيم يهز النجع ويعقبه وباء يحوّل الناس لما يشبه السلاحف البشرية؛ عزيمتها خائرة وعيونها خائفة، يهيمن عليهم تجار الدين والسلطة بألاعيبهم، لكن تتكشف الحقائق يوما بعد يوم.

تتقاطع لحظات الماضي مع الحاضر في نهر السرد، وتتعدد الأصوات لرواية ذات الأحداث التي كانت شاهدة عليها، فترى الحقيقة بعيون تتأرجح بين لوم الجاني أو المجني عليه!

في الرواية يدور صراع نفسي داخل الأبطال القلقين في زمن الحرب حول مصير أبنائهم، كما يدور صراع اجتماعي بين فريقين أحدهما يبرر الحرب ويرفض توقفها – سواء عن قناعة أم تربحا منها – وفريق يرى أنها طاحونة التهمت حياتهم وأبناءهم ولم تمنحهم نصرا يوما ما.

الذات والعالم

لا يخلو سطر من ملحمة “صلاة القلق” من لوحة شعورية تمزج النفس والعالم في إكسير واحد؛ نقرأ مثلا قول النحّال الذي أخذت الحرب وحيده: “مالت الشمس متكاسلة شطر البحر، فمضيت والدار من خلفي على الضفة الغربية تتضاءل، والحقول تتسع لتبتلع كل الآمال ببزوغ مراد”.

تحمل لغة الرواية نفسا شعريا بديعا، فحين نقرأ عن الانفجار والذي يمثل الحدث المركزي في استهلال الرواية: “في البدء سطع ضوء عظيم مزّق أجفان النيام. تلاه دوي هائل صم آذان الأجنة في الأرحام، فتشكل المكان على ضفة الزمان، وظلت الأعناق ملتوية تعانق حلما علق في سماء الأمس، وهاجسا يطوف على أسطح البيوت ويتسوّر الجدران”.

وبهذا تحدث التهيئة النفسية ويصطبغ المكان دائما بلون القلق فـ”أبواب البيوت كابية، والأرق شريك خفي يحظى بوسادة فوق كل فراش”. 

ظلال الجنود كذلك لا تكذب في النجع وتبدو كمعادل آخر من عالم الغيب يروي حقيقة ما يجري على الأرض؛ تداهم الكوابيس أهل النجع عن اولادهم يعبرون نهر الدماء، يستجيبون لنداهة الحرب وطاحونتها القاسية، تنطبع صورهم على الجدران وعلى صفحة السماء فتطيّر النوم من أعين آبائهم.

مسوخ آدمية

كانت محنة الوباء قاسية؛ تلك التي حولت أهل النجع لمسوخ تشبه السلاحف، عيونهم محمرة كقطعان ذئاب ضارية، عزيمتهم فاترة، سقطت شعورهم وحواجبهم، رجالا ونساء. 

تتناسل الحكايات من داخل الحكاية الكبرى للانفجار والتي واكبت النكسة؛ وتأتي شهادات الأبطال لتروي ما عاينوه عن تلك الأحداث، ومنها مقتل زكريا النسّاج المحبوب من الجميع، غريقًا في ترعة القرية، هذا الذي كان نوله بين الشجرتين مستراحا لأهل القرية، ظلّ يطوي فيه حزنه على فقد أبنائه الذين تطوعوا في الحرب هروبا من سجن النجع المحاط بالألغام.

تتطور شخصيات الرواية بتطور الأحداث، وتتغير انطباعاتنا حيالها كلما دارت دورة الحكي؛ الداية وداد مثلا امرأة مسنة تخشى الموت وحيدة، ذاقت ويلات الزواج المبكر لفتاة فقيرة وحُرمت من الإنجاب ومع ذلك ساقتها أقدارها لاستقبال مواليد النجع وفك الأعمال، وهي نفسها تؤمن بأن الطفل الذي يحمل أي عيب سيكون شؤما على أهله ولو خلق بإصبع زائد! 

تقول وداد: “أشرد متذكرة مجلسي بضفاف الترعة، متهدلة كأغصان جافة انقطع عنها الري. العمر يأفل، والزمان يمتص من المخلوقات أكسير الحياة، وما كنت أنا من ذلك استثناء”

وبذلك يخلق السرد تفهمك لدوافع كثيرة قبل الإدانة لتسأل: أهي ضحية الجهل أم جانية؟! وهو ما يمكننا قوله عن شواهي التي فتنت لب رجال القرية، ولكنها حلمت بفارس وحيد ينتشلها من هذا المستنقع.

تنطبع خلفيات الأبطال أيضا في تصورهم للانفجار الهائل؛ سواء انتقام إلهي أو ردع بشري للأعداء أو حتى صورة سماوية للمنهكين!

وهكذا يصنع “ندا” شخصيات من لحم ودم، تحمل أطياف النفس فلا هي ملاك ولا إبليس، ونرى كيف يصبح الدبّاغ مغمورا بحالة السكر والعربدة التي تصل لابنته البريئة، بينما ينشد لأهل النجع لينسيهم مخاوف الهزيمة واقتحام اليهود للدور. وعلى نفس المنوال نرى نوح النحّال نفسه داعي الخروج على الظلم، لا يصبح هكذا إلا بعد عقد من التيه بين الطرقات.

بيت الخوجة

يطل “خليل الخوجة “كممثل للنجع أمام السلطة برطانة العمد الإقطاعيين في الدراما وقسوتهم وثرائهم الفاحش في نجع فقير؛ يرابي فيستحل أرض البسطاء وأموالهم بحجة الوقف لموارد الحرب، يمتلك الصحيفة الوحيدة “صوت الحرب” ويمتلك المطبعة والراديو، هو بيت توزيع المؤن والدواء، هو الطريق لأي سكة حديد او ميناء يقود أبناءهم لفراغ لا نهائي.

رسمت الرواية شخصية الخوجة بصورة تاجر الحرب؛ يعرف من أين تؤكل الكتف في كل العصور، يتلون كما الحرباء، يسخر الجميع لإمرته بتمثال أشبه بخيال المآتة برأس مهشم! هو نفسه من ينفي زوجته لغياهب النسيان حين تكتشف أمره، ولهذا فلا غرابة من أن تبدأ لحظات الخلاص من إدراك الناس لتلك الخديعة الكبرى.

تحاكم رواية “صلاة القلق” إعلام النكسة حين قلب الحقائق واستخف بالعقول. منذ نصر 67 لم يعد الجنود وبرغم أن الصحيفة الوحيدة للنجع تقول: لقد حرر جيشنا أغلب أراضي فلسطين وسوف نلقي إسرائيل في البحر. يتعلق الناس بناصر كمخلّص أمام عدو غادر، النساء يلطمن الخدود حين أعلن عزمه التنحي عن منصبه في إثر النكسة. وفي يوم غابر يأتي الخوجة كدبابة خربة ليعلن أن الجيش قد هزم، وأن مباغتة اليهود أفقدت قواتنا توازنها. تنزل الصاعقة على الرؤوس مع كل كلمة يتفوه بها عن قصف المطارات وتدمير الطائرات.

عدى النهار

كان زكريا الريماوي أو “النساج” الذي وجدوه قتيلا في الترعة، من أب فلسطيني مناضل رافق عبد القادر الحسيني، اضطر للهجرة بعد احتلال اليهود للأرض. تمنى طويلا لو تحررت فلسطين بجيش عربي يقتص لأبيه ورفاقه، بمرور الوقت كره انتظاره المرير لأبنائه بلا عودة، كره شعارات ناصر “ما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة”، يطوف الشوارع يصرخ في صور الزعيم: الحق بغير القوة ضائع، والسلام بغير مقدرة الدفاع عنه استسلام!

ينشد حليم في الجرامافون الذي يمتلكه ابن الخوجة: “ابنك يقولك يا بطل هاتلي نهار” فيبكي نوح ولده الوحيد الذي لم يسمع خبرا عنه ولو استشهاد! يستطيل الريحان من مرقد زوجته هنادي التي أهدته في حضنها الوطن، دفنها وأصبح وحيدا بعدها بلا كفن، ينتظر يوما يجمعهما في غيمة في السماء.

سهم الله ونفد

كيف يمكن أن يعمق شيوخ المنابر شعور الهزيمة؟ حين يأتي الانفجار، يسارع شيخ القرية وابن الولي المزعوم للقول بأنه سهم من الله يقصد به أعداء الدين، وكلما سأله أهل القرية عن أبنائهم راح يبثهم آيات الصبر والجهاد وثوابه العظيم، يثبط عزيمتهم حين يطالبونه بمناشدة الحكومة لإعادة أبنائهم او تعيين طبيب أو حتى بناء مدرسة للنجع.. ترسم الرواية صورة هزيلة لشيخ يمتهن التلاعب بورقة الدين، رغبة منه في سلطة بين الناس تشبه تلك التي كانت لأبيه صاحب الكرامات والحياة بعد الممات! يتلعثم أيوب في قراءة الآيات، يحرّف بعضها كي ترضى السلطة، يفعل ذلك فيما ينزلق مع العامة في متع رخيصة ويلعن أم البنات زوجته!. هنا تتسع الهوة بين الدين المقدس ورجاله الذين يجري عليهم ما يجري على البشر من خير وشر.

لحظة المكاشفة مع دعوة الشيخ لصلاة تدرأ وباء القلق يؤديها العباد راكعين ساجدين بلا وقوف.. تصبح صلاة جديرة بالخائفين لا المؤمنين! ينفجر “نوح” ورفاقه والذي لا يعترف بتلك الصلاة المضللة ولا مشروعيتها، وكأنه يحمل آخر مشاعل الوعي في القرية التي ابتلعها الجهل والنسيان.

مواجهة صنم الخوف

صنم صنعه الخوجة لإرهاب القطيع فأصبح في النص رمزية مفتوحة للتأويل خاصة وأنه فعليا لم يكن غير خيال مآتة لا يشبه أي زعيم!. يقودنا السرد العجائبي لتصديق التمثال مقطوع الرأس نفسه وطوافه بأراضي الفلاحين، والشائعات حول اصطياده الفلاحات ليلا أو قتله رجالها نهارا!

تحمل الرواية رمزيات عدة للخروج من محنة نجع المناسي، وقد اختار نوح النحّال أن يكسر صنم خوفه أولا، بعد أن كان إنسانا عاديا ترهبه أجواء الرقابة المشددة في العاصمة، فأصبح ثائرا في القرية وحطم التمثال وأشعل دار الخوجة وكان قبلها قد أصر على استعادة الروزنامة التي أخفاها الخوجة لجعل أهل النجع يتوقفون عن عد الشهور والسنين التي ذهب فيها أبناؤهم بلا عودة.

يسعى أبطال الرواية نحو الحرية من سجن النجع المحاط بألغام الوهم التي زرعت فيهم؛ يحفر الكلاف نفقا ليرى النور وينقذ البهائم، ويصنع النجار قوارب نجاة في عمق الصحراء مؤمنا بمقولة معلمه أن الحرية لا تفيض من أنفاس المذعورين. لكن الرواية لا تنتصر للمعجزة، ولا لصلاة القلق، ولكنها تدفع للتساؤل حول من يدفع ثمن الحرب، ومتى يجب أن تنتهي لتعود للبسطاء حياتهم.

 لسان الصامتين

يتساءل حكيم نجل الخوجة والذي أودع مصحة لعلاجه: لم أعرف كيف ترسم حدود الأوطان بالألغام ولأي غاية تسال من أجلها شلالات الدم بغير حساب. كان هو الناجي الوحيد من وباء القلق، صبي التهم لسانه فزعا مما رآه بين أمه وزوجها الخوجة حين كشفت حقيقته. تحرك الأسى من أعماقه وراح ينقش على الجدران سيرة كل شيء، وكأنه يقاوم النسيان أيضا، يذكّر الجميع بماضيهم، ليصبح بوحه وسيلة أخيرة للحياة في نجع يترعرع فيه الخوف .. ويصبح هو نفسه الراوي الحقيقي لحكايات الصامتين.

كان حكيم ابن زمان الصوت الواحد والصحيفة الواحدة، قرأ كثيرا من الكتب فنما عقله، وشغف قلبه بحب أول من عطفت عليه واهدته الحنان وهي شواهي، كما تعلق بعبد الحليم مثل جيل كامل، وقرر أن يحيا ككثير من ابناء هذا الجيل وبرغم كل الفقد والهزائم وأن ينطلق في قطار خارج نجع المناسي ونحو النور.

📎 رابط مختصر للمقال: https://www.baladnews.com/?p=379

موضوعات ذات صلة

مصر تحتفي بـ “يوم المدن العالمي”

المحرر

بين جدران الصمت.. معاناة الطلاب ذوي الإعاقة في المدارس

المحرر

قناع بلون السماء.. تحرر الروح من أسر الجلاد الصهيوني

المحرر

تفاصيل تعيين 40 ألف معلم بالأزهر الشريف

المحرر

إسرائيل تقتل الصحفيين لتخفي جرائمها

المحرر

الجنون.. بين الحقيقة والخيال

المحرر