سليدر

الشوكُ والقرنفل.. قصة كل سنوار أضاء عتمته بالمقاومة

“سقطت ذراعك فالتقطها وسقطت قربك فالتقطني. واضرب عدوك بي. فأنت الآن حرٌ وحرٌ”لم يكن غريبًا أن يتداول الناس هذا البيت لمحمود درويش، شاعر القضية الفلسطينية، حين يأتي الخبر الحزين لاستشهاد يحيى السنوار، المناضل العتيد ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس، ممسكًا بعصاه مقاوما بذراع واحدة سليمة جيش الإبادة الصهيوني، في ملحمة جرت الأقدار لتكون بالصوت والصورة حتى النزع الأخير!

قضى السنوار 22 عاما في سجون اسرائيل على خلفية عمليات المقاومة للاحتلال وجواسيسه، وأُفرج عنه في عملية تبادل أسرى عام 2011، وقد اختار لروايته اسم “الشوك والقرنفل” وهي رمزية المعاناة والألم في مقابل طاقة الحياة المتولدة من زهرة القرنفل والتي تشتهر بها غزة.

وبرغم دراسته للغة العربية وآدابها، لا يبدو السنوار في سيرته الروائية مهتما بالحبكة الدرامية واصطناع الأحداث، بقدر اهتمامه بسرد تفصيلي لنضال الفلسطينيين الملحمي الحقيقي، وعبر فصول الرواية الثلاثين نرى ملامح المقاومة عبر مراحل ممتدة منذ نكسة يونيو 1967 وحتى انتفاضة الأقصى عام 2000.

ولأن العدو يحترف تزييف الواقع كما يحترف القتل؛ فقد انشغل الفلسطينيون بتوثيق ما يجري من حرب إبادة وتهويد، وقد استطاع السنوار تهريب روايته من معتقل بئر سبع عام 2004، وأهداها “إلى من تعلقت أفئتدهم بأرض الإسراء والمعراج”.

السنوار شاهدًا على احتلال غزة 

تفتتح السيرة مع مخيم الشاطيء للاجئين بمدينة غزة، حيث سيول الشتاء تقتحم بيوتا بسيطة في أزقة مخيم اللاجئين، بينما يمكث بطل الرواية واسمه “أحمد” وأخوته الخمسة لا يجدون ما يدفئهم. نرى هنا معاناة الحصول على المياه والطعام والملابس في طوابير وكالة “غوث” للاجئين.

 كان السنوار في الواقع ابنا لتلك المخيمات وقد اضطرت عائلته للهجرة من عسقلان لخان يونس بعد 1948 وعاش السنوار طفولة كل النازحين التي لا تعرف الترف وإن عرفت بعض اللحظات السعيدة للهو في الأزقة والالتفاف حول الأهل في المناسبات وتوزيع الحلوى.

يتذكر الراوي مشاهد النكسة واحتلال غزة؛ حين انحشرت أمه وامرأة عمه في حفرة ضيّقة قبالة الدار للاختباء من اليهود، كان هو آنذاك ابن خمس سنوات، وقد خرج أبوه وعمه مع المقاومة الشعبية. يصيح صوت المذياع القريب من فوهة الخندق بأن جيوش العرب ستدهس اليهود، لكن تمر الأيام ويخرج النازحون ويسمعون أصوات النواح على قتلاهم ويتأكدون أن أرضهم قد صارت مُحتلة وقضي الأمر!

استشهد عم الراوي، ونجا أبوه من الموت بأعجوبة واضطر للهجرة، ومرت سنوات بعيدة لم تعرف الأسرة عنه شيئا. هنا يصبح الجد محلا للأب في أسرة كبيرة مليئة بالأطفال، وتصبح أم بطل الرواية الفلسطينية الأصيلة ركن الرعاية ليس لأطفالها لكن لأبناء عمومتهم أيضا.

في هذا الواقع، يتنازل الصبية عن أحلامهم، يحترفون مهنا تدر دخلا وتقيم أود عائلاتهم، ليس هذا فحسب بل تنهال فوقهم حملات الاعتقال مع كل مظاهرة تندلع في غزة، فيقتاد الشباب لما يسميه السنوار في روايته بـ”السرايا” حيث يجري الضرب والتعذيب الوحشي لانتزاع اعترافات عن المنفّذين، ثم تكمل المحاكم الإسرائيلية آلية القمع بأحكام جائرة تلتهم سنوات إضافية من عمر الشباب.. كانت تلك حياة البطل في صباه، وقد شاهد عظمة المقاومة الشعبية وعملياتها النوعية لشخصيات منهم أبو حاتم المصري وأبو يوسف الفلسطيني، وكثير منهم استشهد في الواقع.

أطلال القرى الفلسطينية

في الرواية تطل القرى الفلسطينية بشكل خاطف، وإن كانت غزة هي مسرح الأحداث الرئيسي، كما تطل مدينة القدس التي خرجت لها الرحلات الطلابية وشارك فيها البطل وكان في الثانوية، وقد شاهد قرى عسقلان وأسدود وأطلال دير ياسين التي شهدت مجزرة مروعة.

في القدس شعر البطل/السنوار بالقشعريرة تسري في جسده وهو يستمع للخطيب يتحدث عن معراج النبي واستشهاد الصحابة هنا، وقد بدأ مع شقيقه حسن يندمجان مع دروس الشيخ أحمد، والذي يمثل شخصية أحمد ياسين، وقد رباهم تربية خاصة تجعل العقيدة في قلب مقاومتهم للمحتل.

جيش الجواسيس

تصوّر الرواية كيف استطاعت قوات الاحتلال التغلغل بين الناس بتجنيد المزيد من العملاء لنقل معلومات المقاومة، وكان “حسن” ابن عم الراوي أحد هؤلاء الشباب الذين اختاروا العمل داخل أرض الاحتلال واندمجوا بالمستوطنين، ويصف الراوي كيف تتغير أوضاع هؤلاء ويصبحون أكثر ثراء وتجبرا على أهل غزة بحكم صلتهم بالمستعمر وهو ما يكسبهم النفوذ، لكن الفلسطينيين يحتقرونهم، وقد شارك بطل الرواية في عمليات لتأديب هؤلاء الجواسيس والانتقام منهم.

 

بالطبع كان جدل يدور حول امكانية العمل داخل الاراضي المحتلة لتوفير العيش، وحُسم الجدل للأسف وسارع كثير من الشباب تحت وطأة الأوضاع المعيشية، لكن كان بعضهم يعمل فقط وبعضهم يتم استقطابه لشبكات التخابر. في المقابل كانت عمليات المقاومة على أشدها في الثمانينات والتسعينيات وبالتزامن مع الانتفاضة الفلسطينية، وكان الشباب يخفون القنابل ويفجرونها في حافلات الصهاينة في القدس ويافا وغيرها من المستوطنات، وهنا تبرز نضالات عديدة لعناصر تنتمي لحركة فتح.

من معركة الكرامة.. لحرب أكتوبر

ينظر السنوار بفخر لمعركتين فاصلتين في الصراع العربي الإسرائيلي؛ الأولى هي “معركة الكرامة” يوم 21 مارس 1968 والتي دارت على الأراضي الأردنية ومثلت أول نصر على جيش إسرائيل. ولقد تبعتها أحداث سوداء لحقت برحيل الزعيم المصري جمال عبد الناصر “أمل الأمة” كما يصفه، وتشكيل مجرم الحرب آرئيل شارون وحدة القبعات الحمر لاقتحام أزقة المخيمات وتصفية عناصر المقاومة.

جاء نصر أكتوبر 1973، وقد جعل الفلسطينيون يشعرون بعزة وفخر لم يذوقوه من سنوات بعيدة، يقول السنوار: لقد شبعنا حتى اكتفينا ورضينا من هزيمة العرب لإسرائيل، صحيح أن الحرب لم ينجم عنها تحرير الأراضي المحتلة وتبعتها كامب ديفيد والسلام مع إسرائيل المرفوض عربيا، لكن أكتوبر على الأقل مثّلت كسرا لأسطورة جيش إسرائيل الذي لا يقهر، وتأكيدا لإرادة المقاتل المصري والعربي.

الشيخ أحمد يقود المقاومة

تصف الرواية كيف لعبت الهزائم المتوالية دورًا في صعود تيار يؤمن بحتمية العودة للدين لاستعادة القدس، ومن هنا برز تياران رئيسيان على ساحة النضال، وكمعظم العواصم العربية، يتأرجحان بين فكرة الوطن والدين.

زادت أحلام التيار الديني في التحرر من الاستعمار فوصلت لحد اقتناع بعض الشباب بالهجرة لأفغانستان وملاقاة الأمريكان هناك، ويصف السنوار كيف تصاعد هذا التيار بين طلاب جامعات الأردن وفلسطين خاصة مع افتتاح كلية للشريعة داخل غزة، بالطبع لا يتوقف السنوار كثيرا مع خروقات بعض المنتمين للتيار الديني في تلك المرحلة، لأنه قد رسم خط المقاومة الرئيسي للمحتل.

كان إبراهيم ابن عم الراوي أحد أبرز قادة الحركة الطلابية الإسلامية في جامعة غزة، والذي ظل يناضل ويخطط لعمليات نوعية ضد إسرائيل، وقد صرخ في محمود ابن عمه ويمثل الصوت المرجح لكفة انتظار الحلول السياسية، وقال: هل تريد منّا أن ننتظر المفاوضات لتحصل إسرائيل على 75% من أرضنا على حدود 1967؟! ثم تماطل في تسليمهم على أرض الواقع وتماطل في عودة اللاجئين؟!

انتفاضة الأقصى

في الثمانينات يجري التوغل بقيادة شارون في العمق اللبناني وتجري مجزرة صبرا وشاتيلا المروعة في مخيمات اللجوء وبالتوازي كان الاستيطان في تزايد، تقاومه حركات من فتح بعمليات فدائية شجاعة، فيما كان المستوطنون قد بدأوا بدورهم يحملون السلاح والمتفجرات ويقومون بأعمال عنف ضد المدنيين العزل.

في أعقاب تلك الانتهاكات، سعت جماعة متطرفة تُدعى “أمناء الهيكل” لاقتحام المسجد الأقصى بزعم إقامة هيكلهم على أنقاضه، فهبّ الطلاب الفلسطينيون لحمايته، وخرجوا في انتفاضات متتالية غير آبهين بمن يسقط منهم شهيدا أو جريحا ولا بمن يتم اعتقالهم، وكانت تحدث بطولات فدائية لأصحاب الأرض لتخبئة هؤلاء المقاومين ورغم انتشار الجواسيس من عينة “أبو وديع”.

هنا قرر إبراهيم بطل الرواية أن ينطلق في عملية نوعية حاملًا بندقية كارلوستاف، وقد سعى لتجميع عدد من الطلاب وتسهيل خروجهم من غزة للضفة، يعاونه في ذلك يحيى الكيميائي مخترع القنابل محلية الصنع، والمناضل “عماد” والذي يباغت الاحتلال بمسدسه في عقر داره، وكانت صور الثلاثة “المطلوبين” في كل مكان.

تصور الرواية إمعان إسرائيل في اختيار من يمثلون الجناح اليمين المتطرف، من عينة نتنياهو وشارون وحتى باراك، وحملات قتل الأبرياء واعتقالهم، وكيف أن نهج المقاومة ظل ثابتا على خطى المربي الشيخ أحمد، انطلاقا من كونها ملحمة لمواجهة كيان استعماري ينطلق من خلفية توراتية متطرفة ويرى أحقيته في أرض العرب ومقدساتهم بل وينظر إليهم كـ”أغيار” ينبغي إبادتهم بلا رحمة!.

حين تندلع الانتفاضة الثانية مع حادثة فتح أحد المستوطنين المتطرفين النار على المصلين داخل الحرم الإبراهيمي، يشتد نضال المقاومة، ويرتقي معظم أبطال الرواية شهداء، ويترك “إبراهيم” نجله “يحيى” في كنف بطل الرواية ليحمل الراية من بعده.. وتمر عقود ويصبح كاتب السطور نفسه “يحيى” شهيدا أيقونيا في وجه المحتل.. تماما كما تمنى!

📎 رابط مختصر للمقال: https://www.baladnews.com/?p=388

موضوعات ذات صلة

مدير معهد البساتين: زراعة النباتات الطبية والعطرية تواجه التغيرات المناخية

المحرر

كارت الفلاح يحارب أزمة الأسمدة

المحرر

مشروبات تُضعف جهاز المناعة.. ابتعد عنها

المحرر

لوران موفينيه يخطف “غونكور” برواية تفتح باب الذكريات

المحرر

ارتجاع المريء.. دليل شامل للتشخيص والعلاج

المحرر

خطة جديدة شاملة لتأمين آثار مصر

نجوى سليم