سليدر

في ذكرى مولده الشريف.. قبسات خالدة من نور النبي

تحل اليوم ذكرى المولد النبوي الشريف، والتي يحتفل بها العالم الإسلامي، وهي سنة ابتدرها النبي بنفسه الشريفة؛ فقد صحَّ عنه أنه كان يصوم يوم الاثنين ويقول: “ذلك يومٌ ولدتُ فيه”. كان صلى الله عليه وسلم قلبا ينثر الحب، وقد تلون أصحابه بهذا الحب بعد أن كانوا قبل بعثته عربا عجنتهم الصحراء بمزاجها الشاحب، وشموستها الغاضبة، وكأن محمدا قد أعاد صياغتهم فخرجوا خلقا جديدا كأن لم يتباغضوا بالأمس!

لا شيء عاديا في حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم منذ مولده وحتى وفاته؛ فقد رأت أمه آمنة بنت وهب نورا يخرج منها تضيء له قصور بصرى في الشام!

في كتاب “الرجل النبيل” لعلي بن جابر الفيفي، يصف لنا طريقه إلى عزلته الذي جعل كل ما يمسه يفوح بمسك ما ينبعث من خطواته، عطر يدركه الشجر والحجر، كان النبي يشعر بصداقة مع صخور الجبل الشامخ، يفر من قومه الذين يسجدون للأصنام ويغشون في التجارة ويئدون البنات ويستحلون الزنا، يلج الغار ليتطهر وينجو بقلبه النوراني ويتعبد لرب السماوات والأرض. وما إن جاءه أمين الوحي السماوي جبريل عليه السلام حتى بات محمد نقيا لدرجة جعلته أشد من جبال الدنيا وأطهر من مياه الكون وأنور من شموس المجرة مجتمعة، ولتتنزل على قلب أصفى البشر أعظم رسالة خاتمة، ويتوقف الكون مصغيا أمام النداء الرباني القادم من السماء:”اقرأ باسم ربك الذي خلق” (العلق:1) وهنا تحول محمد من رجل صادق أمين إلى رحمة للعالمين.

قلوب عرفت النبي

صاغ النبي حياة أصحابة بألوان من الحب؛ وقد مرت بصحابة النبي مواقف كثيرة صعبة؛ ربما يعد طريق عودتهم من الحديبية واحدا من أكثرها قتامة؛ فقد عادوا رغم كثرتهم فلم يعتمروا ولم يكحّلوا أعينهم برؤية الكعبة المشرفة، بل وقد وقع بينهم وبين المشركين صلح ظنوا بنوده كلها في صالح خصمهم!

ولكن الله غسل الأرواح المنهكة من صلح الحديبية، بفتح خيبر المبين، وما صاحبه من عز وتمكين، غنيمة كبرى بلا كثير عناء، وبقلب مملوء بطاقة الحب يعانق النبي ابن عمه الغائب منذ عشر سنوات جعفر بن أبي طالب حين يلقاه، قائلا: لا أدري بأيهما أفرح أكثر بقدوم جعفر، أم بفتح خيبر؟!

هو النبي الذي يقدم ذكر زوجته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بين من أحب من الدنيا، ثم أبيها صاحبه والأمين على دعوته أبو بكر الصديق، وهو نفس القلب الوفي الذي رُزق حب أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها حتى بعد مماتها.

هو القلب الذي يتذكر لصاحبه أبي بكر لحظات نصرته في دروب الصحراء وفي شعاب مكة، ويتذكر لحمزة سيد الشهداء شجاعته وإقدامه فيبكيه بحرقة بعد غزوة أحد وكأن حزنا نبيلا عصف بقلبه الشريف.

كان النبي يعلم أن الحياة كالحة، وإذا لم نعالجها بشيء من الحب ستصيبنا بداء الهشيم، فكان النبي يقول لزيد بن حارثة “يا زيد، أنت مولاي، ومني، وإلىّ، وأحبّ القوم إلي”.

علم النبي الصحابة ألا يظلم القوي فيهم الضعيف، وكان يقول لابي مسعود حين ضرب خادمه: “اعلم أبا مسعود، لله أقدر عليك منك عليه”! فيسقط السوط من كف ابي مسعود، ويذوب الظلم في نفسه، ويعتق خادمه لوجه الله، فيأتيه التوقيع النبوي: “أما لو لم تفعل، للفحتك النار”.

بل ويخرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم ومعه نفر من صحابته، قاصدا مقبرة ويتمنى لقاء من سيأتي بعده من المسلمين، ويسميهم إخوانه، وكأنا برسول الله قد شاهد أمته جميعا بعين قلبه المحب.

                                                                                 

“اتقينا برسول الله!”

كان قلب النبي المحب هو ذات القلب الشجاع المقدام، فكان علي بن أبي طالب يقول: كنّا إذا احمر البأس، ولقي القوم القوم (يقصد غزوة حُنين) اتّقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم”، وقد كان سيوف هوازن ورماح ثقيف مفاجئة فطاشت صفوف المسلمين رغم كثرتها وارتبكت حتى شجعهم صوت النبي المهيب “هلمّوا إلّي أيها الناس، أنا محمد بن عبد الله!.. وهنا بدأت الحماسة تدب فيهم ويعودوا حتى اكتمل النصر ولاح.

وهكذا كانت نفسية النبي المجاهد والمعلم والقائد، رجل يحب أن يقاتل في سبيل الله ويموت على ذلك.

وكما علم النبي أصحابه القتال دفاعا عن الدين، فقد علمهم قبلها ألا يقتلوا شيخا فانيا، ولا طفلا ، ولا امرأة، ولا أن يقلعوا شجرة، ولا صومعة يتعبد فيها أحد البشر” بمعنى ألا يسمحوا للرغبة الجامحة في الانتصار في أن تلتهم الأبرياء أو تخرب البلاد.

كان قلب النبي لا يتسع للانتقام الشخصي؛ وقد دعا يوما بأن يعز الله الإسلام بأحد العمرين: بأبي جهل، أو بعمر بن الخطاب، وكان الأول من أشد الناس إيذاء للنبي في دعوته ورأسا للكفر ومخططا لاغتياله!

زاهد تحت ظل شجرة

كان النبي زاهدا فيما يخصه كإنسان، وهذا من أجل معالم نبله، وكان أجود الخلق بكل ما معه، يكسو صحابيا بردة جاءته لمجرد أنها أعجبته، وقد أخبر خادمه أنس بن مالك أن النبي كان لا يدّخر شيئا لغد، وقد أعطى رجلا ما بين جبلين من الغنم فذهب لقومه يخبرهم بأنه يعطي عطاء من لا يخشى الفقر أبدا..

 وقد ربّى النبي أصحابه على هذا المعنى، فكانوا يشعرون بأنهم ينتمون للآخرة وأن وجودهم في الدنيا مجرد عرض قصير لا يستحق التوقف عنده لجمع المتع.

ينام النبي صلى الله عليه وسلم على حصير يابس مهتريء النسج،فيرى أصحابه أثر الحصير في جنب النبي، فيؤلمهم المنظر، فيقولوا: يا رسول الله، لو اتخذنا لك وطاء؟، فيجيبهم الرجل النبيل: ما لي وللدنيا؟! وتتردد صدى كلماته: “ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها”.فالدنيا في عين النبي لا شيء بل ومطرودة من الرحمة ، إلا ذكر الله أو علم تعلق به سبحانه!

في عرفات، وقف النبي صلى الله عليه وسلم أمام أكثر من مئة ألف مسلم، كانوا قبل عشرين عاما يسجدون لهُبل، ويعبدون العُزّي، والآن صاروا يهتفون: لبيك اللهم لبيك.. خطب فيهم بميثاق يخرجهم للأبد من تلك الظلمات إلى نور التوحيد ثم يخبرهم بإشارة الوداع “لعلي لا ألقاكم بعد عامكم هذا”.. وهكذا كان نداء علويا يخبر الرجل النبيل وخاتم المرسلين: لقد آن لك أن تستريح بعد سنوات الكفاح..

 ..

يسير الصحابيان الجليلان أبو بكر وعمر-رضي الله عنهما-  وكل واحد منهما يرى في صاحبه شيئا من أيام “الرجل النبيل”، وكان قد التحق بالرفيق الأعلى، بعد خطبة الوداع، وكانا يعلمان أنه يحب لقاء ربه، لكن كل شيء في المدينة كان يذكّرهما بالنبي، فهذا منبره وهذا مسجده وهذه روضته، فجعلا يبكيان، يتفقدان عطره وأثره وصوته.. كانا بالكاد قد صدقا أنه لم يعد بينهم جسدا ملموسا ومرئيا، وإن ظل بروحه الشريفة وعطره الذي لا يزول.

📎 رابط مختصر للمقال: https://www.baladnews.com/?p=398

موضوعات ذات صلة

إجراءات وقائية لمنع إنتشار فيرس حمي غرب النيل

المحرر

أحزاب : تصعيد التوتر بين إيران وإسرائيل يهدد استقرار المنطقة

المحرر

إعادة برمجة خلايا الجلد: أمل جديد لضحايا الحروق

المحرر

د. مجدي بدران لـ(صوت البلد): “عيش حياتك صح وبلاش أكل غير صحي”

المحرر

رقمنة الخدمات والهوية الرقمية.. اتجاه الدولة للتحول الرقمي

مروة رزق

د. أنور حلمي: الروبوت الجراحي طفرة طبية هائلة

المحرر