ثقافة وأدب

نداهة أصيل .. ترجمة ذات تتوق إلى النور والانتماء

تصطحبنا الكاتبة دينا شحاتة في روايتها الخامسة “نداهة أصيل” في رحلة من الضياع والغربة إلى الهدى والانتماء. تلك الرحلة التي يخوضها “أصيل” – الشاب الثلاثيني بطل الرواية – من لندن حيث بلاد المهجر إلى جدة حيث الجذور وبيت العائلة القديم، فيجد فيها ما يُنير ظلمة قلبه بعد رحلة استمرت لبضعة أيام ولكنها أنارت عتمة مكثت منذ سنوات طفولته البائسة، ليبدأ حياة جديدة، قائلًا: “ومضيت في طريقي أحمل نبتة خضراء في صدري”.

تبدأ أحداث الرواية بوصول “أصيل” المادي إلى جدة، وتنتهي بوصوله المعنوي إلى نفسه وجذوره الحقيقية. رحلة “أصيل” نحو النور لم تكن رحلة يسيرة، حيث مر بعدد من الإضاءات الروحية التي انتزعت طبقات من ظلمة قلبه ورحه انتزاعًا كلفه طاقة وألم ومواجهة للحقائق حتى بلغ الرضا والنور، عبر أحداث تضافر فيها الواقع والتاريخ مع الحلم والفانتازيا والخيال والمشاعر.

ثيمات الرواية

تذخر الرواية بعدة ثيمات، أهمها: الماضي مقابل الحاضر، النسيان مقابل الذاكرة، الضياع مقابل الهدف، البحث مقابل العثور، الهرب مقابل المواجهة، الذاكرة مقابل الحقيقة، والجهل مقابل المعرفة. بالإضافة إلى ثيمات الفن، والتجلي، والأمان. هذا فضلًا عن تساؤلات فلسفية حول ماهية الأمان والأوطان، ومدى صوابية الرحلة.

وتبقى الثيمة الرئيسية في الرواية هي الضياع والغربة في مقابل الأمان والانتماء، التي يصل إليها البطل عبر رحلة يتصالح فيها مع ذاته من خلال تقبل الواقع الذي لا يستطيع تغييره، فيحتفي به بعد “عملية إعادة برمجة قلبي لتفهم قيده، عجزه، وقلة حيلته تجاه الماضي، تجاه الزمن، تجاه الذاكرة”، فيتعامل معه كزينة لا عيب، حتى تنفتح الغرفة المظلمة في قلبه. الأمر الذي يتعلمه من خلال تعامل الحمامة الرمادية مع قيدها. قد يبدو الأمر فيه إشارة دينية إلى قصة الغراب الذي تعلم من خلاله “قابيل” كيف يدفن الموتى. ربما جاء ذلك لإبراز حاجة الإنسان المستمرة للتعلم ولو من مخلوق أقل منه، وربما للتصالح مع حقيقة الضعف البشري.

لغة قوية

اللغة في الرواية هي لغة عربية رصينة فيها شيء من القوة الخفية والبلاغة الملموسة، ربما أرادت الكاتبة التأكيد – من خلال اللغة – على غلبة الأصل والهوية الحقيقية للبطل، وإن كان لا يجيد التحدث بالعربية وتغلب على كلامه اللكنة الأجنبية، ولكنها ربما أرادت أن تؤكد على القارئ قوة الجذور لتؤثر عليه من خلال لغة الرواية.

تتميز أعمال دينا شحاتة بترسيخ تعريفات خاصة بها لمفاهيم شعورية قد يختلف إدراكها من شخص لآخر، ولكنها تصنع قاموسًا خاصًا بها لمصطلحات تهتم بالروح والشعور أراها تنطبع في ذهن القاريء بصكوك باسم الكاتبة. في “نداهة أصيل” نرى تأكيد لمعاني مصطلحات شعورية سبق وأن استخدمتها بشكل محوري في أحداث روايتها السابقة “ما ألقاه الطير” مثل الخفة، والفراغ، والامتلاء، مضافًا إليها مفهوم “انعدام الحيلة” الذي تتبناه الكاتبة في “نداهة أصيل”. ربما يُعتبر ذلك مظهرًا من مظاهر التجريب في روايات دينا شحاتة، فهي تخلق عوالم مميزة، بأحداث تُطبع عليها روحها، ومصطلحات فريدة خاصة بها.

تقنية السرد

استخدمت الكاتبة في الرواية تقنية ضمير المتكلم، فالراوي الرئيسي هنا هو “أصيل” يروي حكايته وما مر به من خلال مشاعره ورؤيته الأحادية للأمور. ولكن سرعان ما يظهر رواه آخرين أثروا على سير أحداث الرواية، كل أيضًا يروي بضمير المتكلم فينقل لنا الحكايا من منظوره الخاص. ولكن – وللعجب – الرواه هنا ليسوا أشخاصًا، بل شجرة النيم، والروشان، والحجر، والإتريك، والباب. جمادات بيت العائلة تتحدث إلى “أصيل” وتكشف له ماضي عائلته وأصوله، ويدخل معها في “ديالوجات” تنكشف له من خلالها خبايا نفسه لتستنير بصيرته ويتسلل النور إلى أعماقه.

أحداث الرواية

في مطلع الأحداث، يعود البطل بالزمن إلى عام 1702 حيث، يروي له أحد أحجار بيت العائلة حكاية الجد “أصيل” الذي أتى من مصر إلى جدة هروبًا من أحزانه على وفاة أمه. وبعد نصيحة شيخ كبير له بأن الأحزان تتبدد في مكة، يقصدها ويستقر في جدة. وتتوالى الحكايات التي تقصها على أصيل الجمادات الخاصة ببيت العائلة، حيث أنهم هم الشاهد الوحيد المتبقي حاليًا على ذاكرة العائلة. يتم ذلك في إطار فانتازي قابل للتصديق من فرط صدق المشاعر. 

وتبدأ رحلة “أصيل” إلى النور بأداء مناسك فريضة العُمرة، بإلهام من شجرة “النيم”، لنلمس الكثير من التفاصيل الروحية في مشاهد العمرة، ويبدأ تطهير البطل بدعائه أمام الكعبة “خذ قلبي يارب وأبدلني به قلبًا جديدًا”. بالإضافة إلى ذلك تحتوي الرواية على نفحات روحية عديدة تلامس قلب القاريء من حين لآخر عبر صفحاتها. فهنا يقول “أصيل”: “تعديت مسجد الجفالي بعد عشر دقائق من التأمل لعله ينطبع على قلبي فأهد”.

ومع كل حكاية تُروى، كان أصيل يتقدم نحو السلام النفسي والانكشاف من خلال الحكايا والأحلام والنفحات الروحية والوعي بالضياع لبلوغ السلام. فكل حكاية كانت تزيل حاجز بينه وبين البصيرة. نرى هناك دائما ربط بين الماضي والحاضر من خلال تشابه أحداث حكايا بعض الجدود مع ما يمر به “أصيل”، فتستنير نفسه. ويحدث انكشاف آخر عبر إدراك قوة اللحظة، حيث يكتشف: “بقليل من التأمل في أحوالي لم أكن حاضرًا قط، أعني لم أقبض يومًا على اللحظة الحاضرة. هناك مؤشر في عقلي لعيب ما ينسحب للوراء، حيث التفكر في الماضي أو يدفع للأمام قلقًا من مستقبل لم ولن يحدث”. يدرك “أصيل” النجاة بعد سؤال المعرفة والاعتراف بالجهل، مرورًا بالكتابة كفعل تحرر “لن يضير شيئًا إن كتبته كمتاهة، المهم أن أبلغ نهايتها، أن أتحرر منها”، فكتب حكايته ليعالج غربته عن والده وغربته عن وطنه. صدق “أصيل” ساعده على الانكشاف الذي يبدأ باستعادة صورة أمه التي فقدها طفًلا. تقول له لروشان: “اغتربت. اجتمعت عليك غربة داخل غربة”، و”عقلك المتخم بالأسئلة لم يفسر الأمر على وضوحه، كنا مدينين لك بالحديث كي تحل أحجيتك بنفسك، كي تبصر جذورك ومنبت أمرك كله. فتنتهي رحلته بحلم يصحو منه وقد غمره نور الصباح وعرف طريقه، بعد إدراكه: “بكفي، كف أبي، وقلبي، قلب أمي، وعقلي الصافي بعد طول تيه… تلمست بيدي ضوء المصباح مشيرًا له أن يطفئ نوره شاكرًا ما أناره داخلي”.

“نداهة أصيل” هي ترجمة لنفس إنسانية تائهة مغتربة ليس فقط عن المجتمع الذي تعيش فيه، بل مغتربة عن ذاتها وحقيقتها. إنها نفس تخوض رحلة ذاتية في أعماقها تُعرض على القارئ من خلال الرحلة الجسدية التي يخوضها البطل من لندن إلى جدة. ولكن الرحلة الحقيقية الأقوى تأثيرًا عليه هي رحلته الداخلية من التيه والغربة والوحل إلى التصالح مع ندبات الطفولة والقلق والوحدة الحالية، ليبدأ عهدًا جديدًا مع ذاته عنوانه “النور والوعي”.

📎 رابط مختصر للمقال: https://www.baladnews.com/?p=468

موضوعات ذات صلة

روايات رضوى عاشور كشفت الجانب الآخر من الحكاية

المحرر

إحياء التراث المعماري.. تجارب منفردة تفتقد الرؤية الشاملة

المحرر

مثقفون يقدمون روشتة للارتقاء بالذوق العام

المحرر

الذكاء الاصطناعي ليس بديلا عن المترجم والأديب

المحرر

نجل عبد الوهاب عبد الحافظ: تكريم والدي لصونه اللغة العربية

المحرر

زوال دولة الكيان الصهيوني في معرض الكتاب

المحرر