طوال عقود، ظل نعيم قاسم نائبا للأمين العام منذ تأسيس حزب الله، مما جعله شاهدا على تحولات الحزب. ورغم ارتباطه الوثيق بتاريخه، إلا أن قاسم لم يكن وجها متطرفا بنفس الدرجة التي مثلها حسن نصرالله. فبينما كان الحزب في السابق يلعب دورا عسكريا بالدرجة الأولى، أصبح الوضع اليوم يفرض على إيران التفكير في خيارات أكثر مرونة. ومن هنا، برز دور قاسم كواجهة قيادية تلبي هذا التحول، مما يوحي بأن إيران باتت مستعدة – ولو جزئيا – لتخفيف حدة سيطرتها العسكرية في لبنان
تكهنات متعددة تشير إلى أن إيران قد تصل يومًا إلى موقف تجد فيه أن الحفاظ على حزب الله كقوة سياسية، بعيدًا عن العمل العسكري، قد يكون خيارًا أقل تكلفة وأكثر استدامة لمصالحها في لبنان. فمع تزايد الضغوط الإسرائيلية والضربات المتكررة على مواقع الحزب، يتضح أن الاحتفاظ بسلاح حزب الله أصبح عبئا أكثر من كونه قوة ردع. هذا التحول يتطلب قيادة قادرة على التأقلم، مما يجعل قاسم رجل المرحلة المناسبة. وفي حال أصبح الحزب مضطرا للتخلي عن سلاحه، فإن ذلك سيضع حدا لتأثير إيران العسكري، رغم إمكانية استمرار تأثيرها السياسي الرمزي
وتدرك إيران أن الوضع الراهن لا يصب في مصلحتها، إذ إن هناك احتمالية أن تفقد هيمنتها على حزب الله إذا تحول الحزب إلى كيان سياسي بحت. ولذلك، صار الأهم بالنسبة لطهران هو أن لا يمنح الحزب تمامًا من الساحة السياسية اللبنانية، بل يبقى كشعار لا نفوذها في المنطقة. فهي تسعى لتجنب مواجهة شاملة قد تكلفها نفوذها، وفي الوقت نفسه تبحث عن اتفاقيات لا تسلبها وجودها الرمزي، حتى لو كان مجرد وهم بأنها ما زالت صاحبة كلمة في لبنان
قد تبدو إيران اليوم مضطرة لتقديم بعض التنازلات. في الحفاظ على تواجدها العسكري في لبنان يأتي بتكلفة عالية، وقد تجد أن الانسحاب تدريجيًا من الساحة العسكرية اللبنانية سيكون أمرًا لا مفر منه إذا تأكد لها أنها لن تحصل على ضمانات من إسرائيل بعدم استهدافها مستقبلا، سواء مباشرة أو عبر وكلائها
تسعى إيران من خلال تعيين الشيخ قاسم إلى تقديم رسالة للعالم بأنها مستعدة لتغيير نهجها. فعلى الرغم من أن قاسم لم يتنصل من مشروع إيران، إلا أنه لم يكن من الأصوات المتحمسة للتوسع. هذه القيادة “المتوازنة” قد تسمح لإيران بممارسة نفوذها في إطار سياسي أكثر من كونه عسكريا، في محاولة للتكيف مع معطيات الواقع الجديد، حيث لا تُعد السيطرة العسكرية حلاً دائمًا.
سياسات متباينة
في سياق الصراع اللبناني، يبدو السلام الحقيقي بعيد المنال، إذ إن السياسة الأمريكية تجاه الصراع في لبنان تعتمد على من سيتولى رئاسة الولايات المتحدة. وعلى الرغم من أن الرئيس المقبل، سواء كان ديمقراطيا أم جمهوريا، قد يتبنى سياسات متباينة تجاه المنطقة، فإن الموقف من نزع سلاح حزب الله سيظل ثابتا تقريبًا، مما يجعل إيران في موقف هش. فقد تتأثر علاقاتها بلبنان ومصالحها الإقليمية بتسويات قد لا تحقق طموحاتها الكاملة، ولكن ربما تبقي على بعض المكتسبات.
لم تتوقف إيران عن دعم حزب الله في حربه ضد إسرائيل، فهي ترى في الحزب خط الدفاع الأول عن مصالحها الإقليمية. ولكن واقع الحال يشير إلى أن الحزب فقد الكثير من قياداته العسكرية، مما جعلها تعتمد بشكل متزايد على عسكرييها لتسيير العمليات. فإيران تعتبر أن الصراع في لبنان هو صراعها الخاص، وأن أي فشل عسكري سيؤدي إلى خسارة هيمنتها في المنطقة
ومع ذلك، فإن القدرة المتبقية لحزب الله ليست كافية لتغيير المعادلة، ويبدو أن محاولات إيران لتعزيز دعمها للحزب تدفعه نحو مواجهة غير متكافئة، قد تكون بمثابة انتحار سياسي للحزب في الداخل اللبناني، حيث يسعى الجيش اللبناني إلى فرض سيطرته تدريجيًا بدعم دولي.
يتوقع العديد من الخبراء أمثال المستشار يونس السبكي الخبيرالاستراتيجي أن الشيخ نعيم قاسم قد يمثل خطوة لإيران نحو انسحاب شرفي من لبنان، إذ إن التحول السياسي للحزب قد يكون ضرورة ملحة لتجنب المزيد من الخسائر. وقد شهد لبنان تاريخيا اثمان باهظة جراء الصراع مع إسرائيل، في التكلفة السياسية والاقتصادية التي دفعها الشعب اللبناني كانت فوق احتماله، ويبدو أن الضغط الدولي سيجبر الحزب وإيران على قبول واقع جديد.
