كم كان ثمن الحرية باهظًا؟ هكذا تهتف كاتبة سورية لتشارك جموع الشعب لحظات النجاة من حقبة طويلة مروّعة، تتذكر مخاض ثورة الياسمين والدماء التي خضّبت الأرض لتنبت وطنا حرا.
في السطور التالية شهادات ثلاث مبدعات سوريات مع حقبة الأسد الطويلة، وقد اضطررن خلالها لتغيير أسمائهن او اللجوء لخارج البلاد فرارًا من قسوة الحياة .. واليوم يتأملن كيف يمكن أن يبني السوريون بسواعدهم وطنًا جديدا يغرد الطير في سمائه بلا خوفٍ!
الجندلي .. ميلاد جديد
الكاتبة “نور الجندلي” تخبرنا كيف أصبحت لحظة الحرية هي ميلادها الجديد، ولو خيرّوهم بين خوض الثورة بكل جراحها من عدمه، لاختارت هذا الطريق بلا تردد؛ فصوت أبواب السجون التي فتحت، ودموع فرح الثوار، وزغاريد الأمهات كانت تستحق.
تقول “الجندلي” وهي ابنة حمص، وكاتبة وناشطة ، أنها قد اضطُرت لتغيير اسمها على الفضاء الإلكتروني هربًا من بطش نظام مستبد جعل شعب سوريا ابن الحضارة العريقة يعيش في سجن من القهر، فارضا سياسة الحزب الواحد، وكما رأى العالم فالسجون مليئة بسجناء الرأي والأرض ارتوت بدمائهم وقد حوّل الأسد ميزانية الدولة نحو السلاح الموجه إلى شعبه والأجهزة التي تراقبهم وتسجنهم.
الكاتبة السورية نور الجندلي
تقول الجندلي أو “إيمان محمد” حسب الاسم الذي اختارته مستعارًا لأعمالها الأدبية وبينها رواية “العدّية”: لم يرتكب شعبنا جرمًا حين خرج من المدن والقرى بالملايين – في مظاهرات سلمية – تنادي بحقوقه الطبيعية في ثورة الياسمين، وقد شاركت وأنا احمل في رأسي مشهد قتل النظام للطفل حمزة الخطيب في درعا عقابا له على إيصال الحليب للمحاصرين.
لقد دمر النظام أحياء برمتها، ولا ننسى مجزرة كرم الزيتون والحولة وغيرها، ولن ننسى أبطال ثورتنا ومنهم عبد الباسط الساروت الذي تحول من حارس مرمى قبل الثورة إلى بطل واجه الظلم حتى الرمق الأخير.
خرجت النساء من مدينة حمص وهن يدركن أنهن قد يعتقلن أو يستشهدن، ومع اندلاع الثورة أصبح الشعب يدرك أنه لا مجال للعودة، وقد شاركتُ في كتابة اللافتات كما عملت على نشر الأمل ..
حدث تحوّل لافت مع إجرام النظام، فأصبحت الثورة مسلحة وبدا أن أغصان الزيتون لن تواجه جيش بشار خاصة وأنه كان قد ارتكب جرائم مروعة وإلقاء القنابل على مربعات سكنية بكاملها ومحاصرة للمدن وتشريد للناس في خيام، كل ذلك لإبقاء قبضته على البلاد.
كنتُ مع المهجّرين قسرياً من حمص وبقيت ثمان سنوات مبعدة، ومن هنا أسست مؤسسة “قيم” مع مجموعة من الأكاديميين في حمص، وهي التي أعدنا افتتاحها في ريف حلب الشمالي، ونشرنا الوعي المجتمعي وكذلك افتتحنا مدرسة لنتابع مع جيل الأطفال بعد الدمار الذي أحدثه النظام.
ندرك أن النظام ترك خزائن البلاد خاوية، وأنها مرحلة مفصلية في تاريخ بلادنا، لهذا نقوم بتدريب “المسعفين النفسيين” ونرسلهم للحالات التي واجهت الموت والاعتقال، وقد افادتني دراستي النفسية في هذا الصدد، ونجاح تجارب سابقة ضمن كارثة الزلزال في الشمال السوري.
عدت اليوم لحمص أستنشق هواء الحرية، وقد كتبت رواياتي سابقا باسم مستعار “إيمان” كما تابعت دراسة الماجستير وتوليت مسئولية الهيئة النسائية لتيار سورية الجديدة، ونقوم ببرامج لتوعية الشباب وشحذ طاقتهم لعبور تجاربهم المؤلمة بروح عالية وصلابة نفسية لاستعادة أنفسهم ولبناء الوطن في مرحلة حاسمة.
جنان الحسن.. زهور الحنين في الغربة
تحتفظ الشاعرة السورية جنان الحسن بقصائدها في باريس حين تعيش الآن، تغلفها بأوراق الورد لتمتص رحيقها، وكانت آخر تلك الأوراق تلك التي سقطت بآذار 2013 حين اختبرت المعنى الحقيقي للمنفى والشتات وأصبح هاتفها يحفظ أرقام العالم..تحتفظ بصوت أمهات فقدن أبنائهن في سنوات الثورة.. لكن العام الفائت قرر ان يعلن اعتزاله بضربة قاضية لطاغية لطالما حرم شعبه من معنى الوطن.
في قصيدتها “ورود البيّلسان” كتبت جنان الحسن قبل عامين من الآن: في بلاد غير مرئيّة/حيث يتقاتل فيها وعليها الجميع /هناك عند المقابر /لا ينّمو الورد /ولا تُعرش الأشجار ولا تُبنى الحدائق /ولا تستوطن الطيور وصغار الدوري /أغصان الصنوبر وأشجار الكينا /ولا أشجار التّوت /هناك فقط /تجلس الأمّهات وسط ترانيم جنائزية .. وحيدات مهشمات كسيّرات القلوب.
تقول جنان الحسن: “الطغاة يجلبون الغزاة” قالها يوما المعتمد بن عباد حين فقد حكمه، وأنا أقول النقد غير البناء يجلب الطابور الخامس على البلاد .لا تشوشوا على سورية الجديدة رجاءا يا ثوار الفيس بوك ..الرجل استلم ركام بلد إنسانيا وماديا وعلميا وصحيا حرفيا .. أزعجتكم لحيته يا مثقفي سوريا ولم تزعجكم سجون بشار الذي ظن نفسه ربًا.. نعم لا نريد طاغية جديدا، لكن دورنا اليوم المبادرة بالتكاتف والتعاون مع قادة المرحلة من أجل العبور.. وأسألوا أمهات سجناء صيدنايا قبل غيرهن إن كن يقبلن بالحكم الانتقالي أم لا؟!
ريم .. ما تعلمته من جبل قاسيون
ريم ياسين أو كما يعرها الجميع (ريمان ياسين) فتاة دمشقية تعشقُ وطنَها واسمها الذي اضطُررتُ إلى مُداراته لأسبابٍ أمنيَّةٍ صاغها نظام مستبد..
تقول الشاعرة السورية: تخرَّجتُ من كلية الهندسة الميكانيكية وحصلتُ على دبلوم التأهيل التربوي ثمَّ عملتُ مُدَرِّسَةً في جامعة دمشق لمدة 11 سنة إلى أن غادرتُ الشامَ لأصبحَ شاعرةً تُنادي بالحريَّة.
كانت حياتي الماضية في دمشق تحتَ حُكمِ الديكتاتور حافظِ الأسد حيث جبل قاسيونُ واقفًا يُخبرنا أنَّ الظُلمَ لابُدَّ أن يُرفع والظَّالمَ لابُدَّ أن يُحاسب.كُبُرتُ والجدرانُ لها آذان وصورةٌ واحدة واسمٌ واحد في كل شيء، في كُتُبِ المدرسة وأناشيد الصباح ولافتات المشافي وأبواب المعامل، وبدلًا من حكاياتِ الأطفال حكى لي أبي عن محافظة حماة وثورتها التي قامت قبل أن آتي إلى هذا العالم بسنتين وقال لي أن الثورة مُستمرَّةٌ وسنحملُ لواءها نحن، ثمَّ غابَ أيَّاماً في سُجون الديكتاتور المُظلمة وخرج منها بمعجزة.
الشاعرة ريم ياسين
سوريا قبل ثورة آذار 2011 كانت بلدًا يّحسّبُه الغريب آمناً هانئاً مستقراً، لكنَّ الشعبَ يعلمُ أنَّ تحت الأرضِ أرضٌ أخرى بها عشراتُ السجون وبين الأهل غائبون أو مُغيَّبون، وأنَّ هذا الذي أتى إلى الحُكم بأسرعِ تعديلٍ للدستور في العالم ليس الأحقَّ بقيادة الوطن وأنَّ يديه مُلَطَّختَانِ بالدم الذي سفكه أبوه.
خرجتُ من سوريا تاركة كل شيء خلفي، عائلتي وبيتي الذي يُعانقُ قاسيون ويُطلُّ على دمشقَ المُتألِّمة، وقصدتُ إسطنبول حيثُ تحوَّلتُ من ريم إلى ريمان فلابُدَّ للإنسان من كيانين ليخدم قضيَّة كبيرة كالثورة السورية.
حدَثَتِ المُعجزة واستيقظت الشام صباح الثامن من ديسمبر 2024 دون طاغيتها الذي فرَّ فرار الجبناء، لتبدأ مرحلة جديدة من التاريخ السوري، مرحلةٌ مليئةٌ بالصعوبات، لكنَّ الشعب الحُرَّ المشهود له تاريخيا بتآلفه سيبني بلده ويَعمُرُها ويؤسس لوطن الحُريَّةِ والعدالة.
حيُّوا دمشقَ ورشُّوا الوردَ والغارا اليومَ نُكتَبُ في الألواحِ أبرارا
أمجادُنا في جبينِ الدَّهرِ ساطعةٌ شاهينُنا في سماءِ الشَّامِ قد طارا
آنَ الأوانُ فيا أبوابها انفتحي عادَ الرِّجالُ إلى الفيحاءِ أحرارا
