تبدأ رواية “حدث في شارعي المفضل” للكاتب محمد الفخراني، بغموض ، فالبطلة هنا هي المرأة الناجية الوحيدة من حدث غريب مجهول السبب حل بكوكب الأرض، جعلها ترحل وتتآكل وتذهب نحو المجهول، آخذةً معها كل ما عليها من بشر وطيور وحيوانات ومباني وبحار وأنهار وشوارع، حرفيًا كل شيء. لم يتبقى سوى المرأة الناجية ومساحة يقف عليها بيت طيني عاشت فيه تلك المرأة نحو ستون عامًا وحيدة تمامًا، حتى يبلغ عمرها خمسة وثمانون عامًا في البيت الناجي الوحيد.
الرواية كُتبت كمذكرات تسطرها المرأة الناجية، التي تسجل حكاياتها لأُناس تتوقع أو تتمنى مجيئهم في أي وقت، أو حتى بعد وفاتها. الحكاية الرئيسية التي تُبنى عليها الرواية هي حكاية رحيل كوكب الأرض، بجانب الحروب والمجاعات التي نتجت عن رحيلها، والتي بلغت حد أن يأكل البشر لحم بعضهم بعضًا بهدف النجاة، ثم حكاية نجاة تلك المرأة، ويومياتها في البيت الطيني، وكيف عاشت بعد رحيل الأرض كآخر من تبقى من البشر.
الطابع الفانتازي للرواية يتجلى بوضوح، ليس فقط في موضوعها الرئيسي وهو انهيار الأرض، بل في أحداث عديدة، مثل انتقال البطلة في العمر، والطيران، واضطراب الوقت، وتنبؤات الرسام الموهوب، وتجسد الألوان، والاختفاءات المتكررة.
اللغة والسرد
اللغة في الرواية تتميز بنعومة من نوع خاص، نعومة مُريحة، فالكاتب ينقل أحداث في غاية المأساوية بأسلوب مريح لدرجة تجعل المأساة تمر على قلب القارئ دون أن تُحدث به خدشًا واحدًا، بل تُطهره وتُعلي من إنسانيته في نعومة وسهولة مريحة؛ ليغمر القلب شعور غني بالسلام رغم المأساة. ذلك أن الكاتب يُصور المشاعر بنعومة وسلاسة حتى حين التعرض لأكثر المحن بشاعة، في ظل تسليم مريح للقدر. هناك تكرار للجمل وشرح إضافي يمنحه لنا الكاتب، فيعطي اللغة جمالًا إضافيًا ووضوح أخاذ. فمثلًا تقول المرأة الناجية: “لا مشكلة مع المشاعر، صحيح؟ لا مشكلة مع مشاعرنا”. بالإضافة إلى ذلك، فإن تكرار جملتي “متمهلة.. غير متعجلة”، و”بلا دراما”، وكذلك تكرار كلمتي “لُطف”، و”شكرًا” عبر الرواية، يمنح شعورًا متجددًا بالسلام والراحة والرُقي.
استخدم الكاتب تقنية ضمير المتكلم في السرد، فهنا الساردة هي المرأة الناجية التي تنقل للقارئ الأحداث عبر ضمير “الأنا”، فتنقل ما حدث بروحها ومشاعرها، في ظل رؤية أُحادية للأمور. أحيانًا يستخدم الكاتب تقنية تيار الوعي خلال السرد عبر تدفق فكري غزير للساردة للتعبير عن أفكارها ومشاعرها وخيالها، ولكن ذلك يتم عبر الكتابة، فهي تُسجل أفكارها مثلما تُسجل أحداث حياتها.
الثيمات الرئيسية
الثيمات الرئيسية في الرواية هي: الحياة مقابل الموت، الإنسانية مقابل الوحشية، الأمل في أصعب المحن وأشدها قسوة، التسليم للقدر، الحرية، الفن كانعكاس لجمال الطبيعة، والاحتفاء بكوكب الأرض.
ثيمة الأرض
ربما يأتي انهيار الأرض في الرواية كتنبيه للعالم كله بقضية الأرض وما اعتراها من فساد وإفساد بشري أدى إلى تغيرات في طبيعتها، مثل الاحتباس الحراري وثقب الأوزون. وذلك بعد تفشي الملوثات، والحروب، وغيرها من مشكلات حقيقية تواجه الكوكب بسبب التدخل البشري الأحمق، واستنزاف مواردها وسط صراعات لا تنتهي. شعرتُ بهذا في قول البطلة “هل كانت تحتاج منا فقط بعض اللطف؟”، وكذلك “وعند لحظة ما، عرفنا كلنا أن الأرض لا تحمل ضغينة ضدنا، فقط حزينة، مُتعبة، و.. ترغب في الذهاب إلى مكان آخر” أرى في ذلك رواية واقعية جدًا، وفانتازية جدًا، أو ربما هي فانتازيا واقعية.
في الرواية تبجيل لخيرات الأرض والنعم غير النهائية التي منحنا الله إياها عبر الأرض، من قِبل البطلة التي تود لو أن هناك تلسكوبًا يُمكننا من رؤية بداية الخلق، اللحظة التي أسمتها “نور البداية” في إشارة لعظمة الخالق. عندما تقول “بيننا وبين لحظة البداية شيء مشترك”، و”وأفكر أنها لا تزال حية هناك، هنا، تتكرر كل يوم في انتظار أن نصل إليها”، ربما هي إشارة لكل خلق جديد، فكل ولادة جديدة لبشر أو طائر أو حيوان أو حتى نبات هي تجسيد متكرر لعملية الخلق الكبرى للأرض بل، والكون.
التناقض
التناقض سمة بارزة في الرواية مثل: “يمكن للغروب أن يكون انكشافًا بطريقة ما، مثلما يمكن للشروق أن يكون تغطية بطريقة ما”. ولكن أخذني بشكل كبير، التناقض بين استقبال البشر للمأساة في بدايتها، بالحرب وأكل لحم بعضهم بعضًا، ثم اختيارهم في النهاية الارتقاء بإنسانيتهم، وتفضيل الموت على حياة مجردة من الإنسانية، الأمر الذي بلغ أحيانًا حد الإيثار. وذلك بعد إدراك بشاعة التجرد من الإنسانية وحتمية الموت. “لكي نختم وجودنا على الأرض بلطف، وتصرف طيب، وفي أفضل حالاتنا الإنسانية”.
الشخصيات
هناك شخصيتين رئيسيتين بالرواية، هما: المرأة الناجية، وأخيها الأصغر، مع ظهور ثانوي لأم ستينية تلقي بنفسها في الانهيار الأرضي بهدوء وثبات، بعد هروب راقص وحافل، وكذلك عجوز ثمانيني أطلقت عليه الناجية الوحيدة اسم “عداد السنين”، لأنه الشخص الوحيد الذي يعرف تحديدًا حسابات الزمن منذ بدء رحيل الأرض، وحتى وفاته بعد بدء الرحيل بثلاث سنوات .
المرأة الناجية هي فتاة في الثانية والعشرون من عمرها عندما تبدأ الأرض في الانهيار، مذيعة راديو، تعشق الصباح، وتعشق الأرض والزراعة واللون الأصفر. تُحب أن تُسمي نفسها “صباحية” و”أرضية”، وتحب كل ما تجود به الأرض علينا بشكل خاص. تُعلي من قيمتها وتُرجع ما حدث لها من انهيار أنها ربما كانت تحتاج منا لبعض اللطف. تتميز بالهدوء رغم ما مرت به من صعاب، وتتواصل مع الأشياء والروائح والأصوات فتقول “ابتسم لرائحتي وتبتسم لي”. نمر مع البطلة بجميع مراحل عمرها حتى تصل إلى الخامسة والثمانون دون أن تفقد روحها وتفاؤلها وأملها الواضح وانسجامها مع القدر، حيث تقول “بداخلي شعور أني سأحصل على مساعدة بطريقة ما”، و”كنت مستعدة أن أفعل وأصدق أي شيء مهما بدا بعيدًا”. حتى عن الألم تقول: “كل شيء فيا يتألم بمفرده، ونتألم كلنا معًا، وبعدها ينتهي ألمنا، الظاهري على الأقل، وأضحك وأبكي وأبتسم من جديد”، و”نظرة خفيفة على أثر جرح….. بلا دراما كما اتفقت معي”.
الرسام الموهوب هو الأخ الأصغر للبطلة، ظهر في الرواية كفنان يعشق الرسم ويعيش فيه دائمًا. هناك غموض في شخصيته، فهو يُشير إلى موته قبل حدوثه، ويشير إلى وحدة أخته قبل حتى انهيار الأرض، كما يوصي أخته قبل وفاته بأكل قلبه حتى لا تجوع.. التغميض في شخصية الرسام الموهوب يصل حد أن القارئ لا يعلم أنه الأخ الأصغر للبطلة إلا في السطور الأخيرة للرواية. عبر الأحداث، تُشير البطلة إليه بـ “حبي السهل”، وتذكره “كم مرة قضينا الليلة كلها تحت غطاء خفيف وسط الزرع”، وكذلك “كم مرة أفتح عيني فأجدك نائمًا في حضني، ويدك على خصري”، مما يوحي للقارئ أنه زوجها، حتى يتضح في النهاية أنه الأخ الأصغر لها، والذي يصغرها بنحو 11 سنة تقريبًا.
لم تُذكر أسماء للشخصيات في الرواية، حتى البطلة وأخيها، لا أسماء لهم. البطلة هي الساردة، وأخيها يُشار إليه دومًا بـ “الرسام الموهوب”. رُبما تعمد الكاتب ذلك لمزيد من التغميض، أو لتعميم التجربة التي ربما أراد بها لفت انتباه البشر جميعًا لقضية “الأرض”.
المكان والزمان
تدور الأحداث في بيت البطلة ذو المساحة الزراعية الصغيرة، وبيتها الطيني بعد انهيار الأرض، ويتخلل ذلك مشاهد لشوارع مفضلة، وأصوات لبحار وأنهار ووصف لصحراء وحيوانات وطيور، وأسماك. ذلك أن الكاتب قد أتى بالعالم كله في الرواية احتفاءً بالأرض. هناك وصف تفصيلي دقيق للغاية للبيت الطيني يعكس دفء تفاصيله، وسيطرة ألوان الأخضر والأزرق والأبيض على مقتنيات البيت توحي بالنضارة والحيوية والهدوء الذي يكسوه. لكن يؤخذ على الكاتب تكرار الوصف الدقيق لأبسط محتويات البيت وتفاصيله، وكذلك تكرار وصف أبسط أفعال البطلة في يومياتها تفصيليًا دون وجود أحداث حقيقية – في منتصف الرواية تقريبًا – لتتحول التفاصيل من منح القارئ الدفء والسلام إلى إصابته بالملل أحيانًا.
الزمن في الرواية غير محدد، والوقت دائمًا مضطرب وغير معلوم بدقة. “بعد أسبوعين تقريبًا من بداية رحيل الأرض اضطرب الوقت، واختلف عدد ساعات اليوم”. فأحيانًا يتلاشى نصف النهار، أو لا يأتي الليل، وكذلك في البيت الطيني أحيانًا يكون النهار ساعتين فقط، والبطلة لا تعلم في أي يوم أو شهر أو عام هي، فأقامت تقويم جديد صنعته بنفسها. بالإضافة إلى ذلك، نجد تداخل بين الماضي والمستقبل فالبطلة تقول “سألبسها في ماضِ أو لبستها في مستقبل”. كما أن البطلة تتنقل في العمر في بعض الأيام، فنجدها تنام شابة عشرينية وتصحو امرأة ثلاثينية، أو تنام عجوز ثمانينية، وتصحو شابة في العشرين.
الرمزية
الرواية تذخر برموز عديدة، مثل: اللون الأصفر الذي يرمز للبهجة والحياة متمثلةً في شمس النهار، والنوافذ التي ترمز إلى الاطلاع والتواصل والوجود، وطيران البطلة الذي يمثل الحرية، وشجرة الزيتون التي ترمز إلى الأصالة والقوة والسلام. كما أن تكرار اتخاذ البطلة للوضع الجنيني واحتضان نفسها يعطي إحساسًا بالدفء والأمان. بجانب ذلك، هناك أفكار وتساؤلات فلسفية عميقة تعلن عن نفسها بقوة عبر صفحات الرواية، مثل ماهية العمر، ووحدة النفس الإنسانية، وتجارب البشر، بالإضافة إلى تحليل فلسفي لبعض الظواهر الطبيعية.
تأتي نهاية الرواية غير مكتملة، غير واضحة، وغامضة أيضًا مثل الأحداث. تقول البطلة: “يمر أخي.. يختفي ولا يختفي”. تبدأ العودة برجوع اللون الأصفر مثلما بدأت الأحداث الغامضة باختفائه، ثم رجوع النوافذ بنفس ترتيب الاختفاء أيضًا، حتى يعود الرسام الموهوب، بعد احتفال البطلة بعيد ميلادها الخامس والثمانون. ولكنه يأتي في العمر الذي مات فيه 14 عامًا، فهل يعني ذلك عودة البطلة إلى عمر الخامسة والعشرون؟! فالكاتب يترك القارئ في حيرة من أمره، هل كانت كل الأحداث الفائتة ما هي إلا حلم أو تخيلات أو شيء غامض لا نعرفه، ولا يتضح بجلاء قطعي؟! ربما كان حلمًا إذا أخذنا الدلالة السيميائية لعتبات النص في الاعتبار. فعندما نتأمل صورة الغلاف، نجدها لامرأة شابة مغمضة العينين، مما يوحي بأن كل ما حدث قد حدث في أحلامها فقط وانتهى.
