طفلة فلسطينية صغيرة جسدها هزيل وعينها حزينة، وجهها شاحب وعظامها بارزة. بأصابع ناحلة تمسك الصغيرة بهاتفها لتتذكر كم كانت جميلة قبل الحرب؛ كم كان بيتهم عامرًا وفستانها أنيق!. تبكي وجع الجوع قبل أن يغيب وعيها فتحلم بطعام ساخن تجهزه ماما. أطفال مثلها يجلسون في المخيمات الحارة والعنابر البائسة في انتظار الطعام أو الموت. تطاردهم مصائد الموت حول مراكز المساعدات الأمريكية والتي قُتل فيها أكثر من 1300 فلسطيني.. تطاردهم على أبواب المدينة الحزينة دموع الأمهات والآباء الذين يحتضنون أبناء فشلوا في النجاة من الجوع والقصف فذهبوا للأبد.
ليس ذلك المشهد خيالا وإنما واقعٌ تعيشه غزّة كل يوم؛ ولذا فقد خرجت مظاهرات عارمة في عواصم المدن الكبرى حول العالم، تندد بإسرائيل التي تفوق قادتها على النازي هتلر في بشاعته وعنصريته.
رُفعت لافتات تفضح الحصار الشرس وحرب التجويعٍ الممنهجة التي راح ضحيتها حتى الآن اكثر من 240 فلسطينيا، معظمهم أطفال، وأضعاف هذا العدد بأمراض سوء التغذية. وكأن آلة الحرب لم تشبع بعد أكثر من 60 ألف شهيد وعشرات الآلاف من الجرحى. لم تشبع آلة الحرب الصهيونية وها هي اليوم تقتلع سكان غزّة من أرضهم بجنون وتستخدم التجويع سلاحا لإنجاز مهمتها في أقصر وقت.
قرع الضمائر والأواني
خرجت مظاهرات حاشدة في عواصم العالم الكبرى ترفع اللافتات للأطفال الجوعى والمصابين ومبتوري الأجنحة والأحلام، عليها بلون أحمر قانٍ: لا للإبادة!
أكثر من 380 كاتبا بريطانيا وأيرلنديا توجهوا بخطاب رسمي لحكومتهم بوقف أشكال التعاون مع إسرائيل. جاء الخطاب بعد أن وقّع ما يزيد عن 300 كاتب فرنسي بينهم حائزو نوبل الآداب آني أرنو ولوكليزيو، مطالبين بوقف المجازر. وفي كندا اشتعل مهرجان ادنبره الدولي بحملة انسحابات وإلغاء عروض يهودية. وفي سيدني تدفق شلال بشري رافض للإبادة في تظاهرات عارمة.
من نافذتها تقرع الصحافية والشاعرة الفلسطينية فاتنة الغرّة أوانٍ نحاسية بصوت مسموع كل يوم، ضمن مبادرة يقودها النشطاء للتذكير بجريمة تجويع المدنيين وحصارهم. وفاتنة هي ابنة مدينة غزة وتعيش حاليا في مدينة بروكسيل، وتقول لـ”صوت البلد”: مبادرة قرع الأواني هي واحدة من مبادرات أوروبية إنسانية للتضامن مع المجوّعين في غزة. وللأسف فإن زخم القضية أكثر وضوحا في أوروبا من بلاد العرب. في الحقيقة نحن نقرع الضمائر لتستيقظ وليس الصحون. زرت مدينتي الحبيبة قبل السابع من أكتوبر 2023، ومنذ ذلك وأنا أعيش المأساة وأعاهد نفسي ألا أتوقف لحظة عن فضح جرائم الصهيونية.
يوميات القطاع الحزين
تخبرنا أميرة عبد الجواد وهي مواطنة من غزّة كيف تضطر للصوم فعليا لأيام متواصلة وبدون رغيف تخبزه لأولادها الصغار. تتأثر الأمهات بشدة مع تكرار الفقد ومع الحياة المستحيلة بلا مأوى. أصبحت كثير منهن العائل لأسرهن، ولكنهن قد لا يجدن ما يشترينه في ظل الغلاء وتفشي البطالة وانعدام الرواتب بعد كابوس الحرب.
يقول الناشطون ومنهم د.مريم حجّي أن التبرعات لابد أن تستمر بشكل مباشر للقطاع وتؤكد أن سرّ عدم وصول نسبة كبيرة من المساعدات الإغاثية للناس الأشد احتياجا إليها؛ هو اعتراض الشاحنات من قبل قطّاع الطرق ومن ثم سرقتها أو بيعها بأثمان باهظة من قبل التجار. صحيح أن الأسعار قد تراجعت بعد فتح المجال للمساعدات بضغوط قادتها القاهرة وعواصم عربية، لكن من جهة أخرى فإن حجم المساعدات لازال متواضعا إلى جانب مأساة القطاع الذي أشرف على درجة متقدمة من المجاعة ومؤخرا استشهد في يوم واحد 8 حالات منهم 3 أطفال جوعًا. أما المساعدات التي تلقى عبر المظلات فتحتاج لتنظيم لانها تتسبب في إصابات مميتة نتيجة سقوطها فوق حشود المتدافعين.
إن حياة المجوّعين من أهل غزة قاسية في كل تفاصيلها؛ تصف الكاتبة نجيا محمود كيف تلسع الخيمة الروح قبل الجسد في درجة حرارة داخلها تتخطى 55 درجة.ويصف الأخصائي النفسي د.سعيد الكحلوت صاحب “ربع رغيف”، كيف أصبح أهل الخيام يفضلون النوم في العراء على الأرصفة، بعد أن تحولت الخيمة لفرن يخبز أهله على مهل ويحطّم إنسانيتهم.
هذا تحديدا هو ما تلفت له ديانا مقلد الكاتبة الصحفية بـفكرة “تسليح الجوع” حيث تُوجَّه الأموال الضخمة نحو تشغيل الآلة العسكرية لإطباق الحصار وتجويع سكان غزة وإنهاكهم تماما. مشيرة إلى أن الأجيال التي تنشأ في بيئة المجاعة ستواجه آثارًا مؤسفة جسديا ومعرفيا لأنها تضررت جذريا.
كتّاب إسرائيل: نشعر بالعار!
بعد جرائم إسرائيل، وقع كتّاب يهود وإسرائيليون عريضة تتبرأ من سياسات نتنياهو، بين هؤلاء كان إيلان بابيه المؤرخ الإسرائيلي البريطاني الذي ينفي أسطورة الصهيونية “أرض بلا شعب”.
يقول الكاتب الإسرائيلي ديفيد جروسمان في حواره لصحيفة “ربابليكا” الإيطالية: أشعر بالعار حين أطالع الصحف الأوروبية وهي تربط كلمات المجاعة والمجازر باسمنا. لا أعرف كيف وصلنا لهذا الحضيض؛ لقد حلّت لعنة إسرائيل على العالم منذ احتلالها للأراضي الفلسطينية عام 1967 (بدأت المجازر مع تأسيس إسرائيل 1948). يتساءل: لماذا نُصاب بالهستريا من اعتراف أوروبا والعالم بدولة فلسطينية؟ هل لأننا قد اعتدنا فعلا على التعامل مع سلطة بلا صلاحيات، أم لأننا لم نعتد أن هناك آخر له سلطة وأرض!. في أفضل الحالات يرغب عالمنا بدولة فلسطين منزوعة السلاح وبلا ضمانات لانتخابات قد تأتي بمن يقاوم إسرائيل. لذا لن تتوقف دائرة العنف!
بدوره يصف كريس هدجز الصحافي الدولي المختص بتغطية مناطق النزاعات، وأحد شهود جريمة الإبادة في حرب غزّة، كم الألم الذي أصابه من دفع الناس جنوبا لمراكز مساعدات تعد في الواقع مناطق عسكرية خطرة يتم قنصهم فيها بحجة التحكم في تدافعهم العشوائي فيختلط الدقيق بدمائهم في صمت. يقول هدجز وهو يهودي الجنسية في مقال بمجلة “إنسايت”: لا تصدقوا البروباجاندا الدولية التي تصف الحرب وكأنها دفاع دولة إسرائيل عن نفسها ضد إرهاب حماس. إن أساطير أرض إسرائيل هو ما تزرعه الميديا في عقول الناس بينما الواقع هو القتل العرقي بكل الأسلحة المتطورة للمدنيين العزل
أدباء فلسطين.. الصوت سلاح
أصبح المبدعون شهودا على مدينة يحاصرها الموت من الجهات الأربع. تقول الشاعرة نعمة حسن صاحبة ديوان “كن أنت غزّة” المترجم: في بلادي يقف الجوعى في الطابور للحصول على حصة الطعام وحين يصل دورهم تكون قد أكلتهم المسافة.
عدد كبير من أدباء فلسطين كرسوا أنفسهم لفضح جرائم إسرائيل، وبينهم الصحافي الفلسطيني والأديب مصعب أبو توهة حائز جائزة البوليتزر في نسختها الأخيرة والذي تعرض للاعتقال بالقطاع وهو اليوم يفضح جرائم الصهيونية في الميديا العالمية. بدوره يصف عاطف أبو سيف الروائي الفلسطيني في شهادته على الحرب “لا تلتفت يسارك” المترجمة للغات عدة، يوميات عاش فيها 75 يومًا بعد الحرب الأخيرة؛ حيث يصبح المرء محظوظا إن عثر عليه أحبّته بين الركام..في الواقع تحولت غزة المدينة الساحرة المطلة على البحر لأكوام وبقايا ذكريات متناثرة وبكاء ونواح.
خرج مشروع كتاب “الوصايا” أيضا والذي قدم له ألبرتو مانغويل وجوديث بتلر وحررته ريم غنايم، ليطلق العنان ليوميات القتل والحصار كوسيلة لقول “نحن هنا” ضد العنف الذي يهزم البشرية.
في ساحة أوروبية، وقف ناشطون يقرأون قصائد رفعت العرعير، بعد بدء العدوان على غزة في أكتوبر 2023، وقبل استشهاده بأسابيع، وهو مؤسس مشروع “لسنا أرقاما” يقول: نحن بشر، نحلم، نأمل، ونعيش. إذا كان لابد أن أموت، فليكن موتي أملًا وقصة تروى.
